الأزمة السورية.. التحديات والفرص– قراءة استراتيجية
ما تشهده المنطقة والعالم في الحقبة الحالية يشير إلى أننا أمام تحولات مفصلية قد تؤدي إلى تغير شكل وموازين القوى العالمية، إلا أنه ليس من الواضح بعد الأبعاد الحقيقية لتلك التغيرات المتوقعة، أو الاستنتاجات، لأن ذلك يعتمد إلى حد بعيد على أداء القوى الفاعلة، وعلى التموضعات الإقليمية والدولية لصالح هذه القوى أو تلك. فالصراع في أشده ما بين القوى الغربية المهيمنة على العالم، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية من جهة، والقوى المناهضة للسياسات الأمريكية التي تسعى إلى إعادة رسم التوازنات الإقليمية والدولية، أي روسيا، وإلى حد ما الصين.
من الواضح أيضاً أن مستوى التصعيد السياسي والإعلامي والاقتصادي والعسكري إلى حد ما في مناطق ذات حساسية جيوسياسية كالتصعيد الخطير في سورية، قد يؤدي بالضرورة إلى تفاقم مخاطر الصراع، وصولاً إلى مواجهات حادة ومتدحرجة في منطقة الشرق الأوسط، وصولاً أيضاً إلى أوكرانيا، وقد تفتح ديناميكيات الصراع المتفاقمة جبهات جديدة غير متوقعة في شرق آسيا أو حتى في آسيا الوسطى.
الأزمة السورية فتحت الباب للمواجهة الاستراتيجية بين القوى العظمى والإقليمية، ويواجه العالم الآن، وبعد سبع سنوات من الصراع، تحديات حقيقية للعبور إلى عالم جديد قد يكون متعدد الأقطاب يعيد التوازن إلى المنطقة والعالم، إلا أن مخاطر العبور مازالت كبيرة، وقد تؤدي حسابات بعض الأطراف الخاطئة إلى تفجر الصراع وتفاقمه، بحيث يكون من الصعب التحكم بمساره. وعلى الرغم من الضبابية التي تلف العلاقات الدولية وتردد بعض الدول العظمى في اتخاذ خطوات حاسمة باتجاه تحديد هويتها ومكانها الجيوسياسي، وبشكل نهائي لتشكيل تحالف إقليمي ودولي قادر على تحجيم الهيمنة الأمريكية الأحادية في العالم، إلا أن المؤشرات الأخيرة قد تكون مقدمة لتشكّل تحالف حقيقي ما بين روسيا والصين وبعض الدول الإقليمية الأخرى التي تراقب عن كثب أداء القوى العظمى إزاء أزمات المنطقة والعالم.
الدول الفاعلة.. الفرص والتحديات
– الولايات المتحدة الأمريكية
على الرغم من التراجع النسبي للولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط وفي آسيا الوسطى، إلا أنها مازالت القوة المهيمنة على العالم بما لديها من تراكم قوة عسكرية واقتصادية، وذراع إعلامي مؤثر بشكل كبير، إلا أن التفوق العسكري والاقتصادي قد بدأ يتراجع بعد التغيرات الكبيرة، حيث أصبحت روسيا والصين في مكان يتحدى هذا التفوق، كما أن الاندفاع الروسي في سورية وفي القرم قد جعل من روسيا نداً في صراع لم تكن الولايات المتحدة تتوقعه في هذه المرحلة.
من جهة أخرى حددت الولايات المتحدة مسبقاً قائمة الأعداء من روسيا إلى الصين، وتقوم باحراءات اقتصادية وسياسية، وحملات إعلامية متواصلة ضد روسيا وحلفائها، وإلى حد ما ضد الصين.
حيث تستمر الولايات المتحدة بالعمل وفق العقيدة الاستراتيجية التقليدية، والسعي للسيطرة على الممرات البحرية من أجل حصار الصين وروسيا بحرياً، والسيطرة على خطوط نقل الطاقة، ومنع الصين وروسيا من رسم نفوذهما في البر الأوراسي وآسيا الوسطى بالأخص.
يبدو التفوق الإعلامي لمحور الولايات المتحدة والغرب واضحاً، ويبدو واضحاً أيضاً أن الولايات المتحدة تسعى إلى إضعاف الدول المعادية لها من خلال الاستثمار في الفوضى والإرهاب، ولعبة تغيير الأنظمة مازالت الوسيلة الأهم التي تستخدمها، معتمدة على عوامل الصراع المذهبي والطائفي والإثني التي لم تجد لها الحكومات المتعاقبة حلولاً ومعالجات حقيقية في مختلف المناطق التي تشكّل أرضية لصراع القوى العظمى، كما تشكّل المنظمات غير الحكومية وحرب السايبر أداة أساسية ومؤثرة للولايات المتحدة في هذا الصراع.
شكّل الصراع على سورية حلقة مهمة، حيث اعتبرت الولايات المتحدة أن انهيار سورية سوف يفتح الطريق لواشنطن إلى إيران وروسيا، وسيؤدي إلى تطويق الصين من خلال الهيمنة المطلقة على موارد الطاقة في الشرق الأوسط، وترسيخ الهيمنة على آسيا الوسطى بعد مرحلة الانحسار الأمريكي في هذه المنطقة نتيجة تداعيات الحرب الأفغانية والعراقية.
من هنا تبدو أهمية ما يحدث في سورية، فانتصار سورية وحلفائها في هذه الحرب يعني التحول باتجاه انبثاق عالم متعدد الأقطاب ينهي الهيمنة الأمريكية، وبالتالي فإن الولايات المتحدة سوف تواصل سياستها المدمرة من أجل استمرار الفوضى، وتمديد أمد الأزمة، سواء أكان ذلك من خلال التدخل المباشر، كما حدث في العدوان الأخير بحجة الهجوم الكيماوي المزعوم، أو عن طريق تعقيد المشهد السوري، وإدخال لاعبين جدد إلى الشرق السوري من قوات مدعومة عربياً، وخلفية للغرب، وصولاً إلى “بلاك وتر”.
كما من المتوقع أيضاً أن تقوم الولايات المتحدة بتسخين جبهة الصراع في أوكرانيا قريباً، ومحاولة افتعال اضطرابات في الدول المستهدفة أي روسيا، إيران، الصين، ودول آسيا الوسطى.
– روسيا
شهدت السنوات الأخيرة تحولاً كبيراً، حيث استطاعت روسيا إعادة بناء قدرتها العسكرية وبتقنيات فائقة، وأصبحت قوة عسكرية موازية للقوى الغربية، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية، كما أن الحسم والإرادة السياسية لروسيا بقيادة بوتين قد أربك الغرب، وبالأخص فيما يتعلق بالأزمة السورية والقرم، كما أن التحول الأكبر قد حدث من خلال تبني العقيدة الأوراسية لمواجهة العولمة والتوسع الأمريكي، ونجح بوتين في مواجهة الحرب الناعمة التي قادتها الولايات المتحدة ضد روسيا، وأفشل إلى حد كبير الأهداف الاستراتيجية الأمريكية التي كانت تسعى من خلالها إلى محاصرة روسيا بحراً وبراً من خلال الاستيلاء على أوكرانيا، كما أنه أوقف بمساعدة السوريين مشاريع تغيير الأنظمة والثورات الملونة، إلا أن الصراع مازال في بدايته، وهذا ما يفسر الجنون الغربي، على مستوى الأداء السياسي، والعسكري، والإعلامي.
إلا أن روسيا أمام تحد حقيقي، ولابد لها من اتخاذ القرار والإجراءات على الأرض للتحول النهائي من مفهوم الشراكة مع الغرب (أوروبا والولايات المتحدة) إلى مفهوم التنافر الاستراتيجي والمواجهة المعلنة، ودون أن تكون هناك أية إمكانية للتراجع، فالغرب تاريخياً يحاول تحجيم روسيا، ومواقفه عدائية لها، ويهدف إلى منع روسيا من أن تلعب دوراً محورياً على مستوى العالم.
ومن جهة أخرى فإن الدول الأخرى الكبرى مثل الصين تراقب عن كثب الأداء الروسي، وتخشى التموضع النهائي إلى جانب روسيا خشية انقلاب روسي جديد باتجاه شراكة مفترضة مع الغرب مرة أخرى.
فالتفاقم الكبير على مستوى العلاقات الدولية، والحملات الإعلامية والسياسية على روسيا وسورية بعد قضية سكربال والغوطة الشرقية قد يدفعان النخبة الحاكمة في روسيا بقيادة بوتين للتحول النهائي إلى المواجهة الاستراتيجية، وهذا سيؤدي بالضرورة إلى تشجيع الصين ودول أخرى للوقوف مع هذا المحور الذي قد ينهي الهيمنة الأمريكية.
– الصين
شهدت الصين تطوراً اقتصادياً وعسكرياً كبيراً في السنوات الأخيرة، كما شهدت تحولاً كبيراً مع إطلاق الرئيس الصيني مبادرة “حزام واحد طريق واحد” للشراكة الاقتصادية في إعادة إنعاش طريق الحرير القديم بأفق وزخم أكثر شمولية، والذي يفشل المشاريع الأمريكية لمحاصرة الصين بحرياً وبرياً، كما ساهمت الصين بشكل حاسم بالتصدي للمشاريع الغربية في سورية والمنطقة من خلال استخدام الفيتو ضد مشاريع القرارات الأمريكية والغربية، كما واجهت الصين التصعيد الأمريكي في بحر الصين الجنوبي بحزم وقوة من خلال نشر قواتها البحرية بشكل يضمن سلامة الطرق البحرية وصولاً إلى الخليج العربي.
إلا أن الخطوة الأهم هي إنشاء بنك الاستثمار مع دول “بريكس” بعيداً عن البنك الدولي، وفتح بورصة بالعملة المحلية بما يتعلق بمستوردات النفط والغاز، هذه الخطوات تؤكد وعي الصين للتحديات والمخاطر في طريق المواجهة مع الولايات المتحدة الأمريكية.
تدرك الصين أن الولايات المتحدة الأمريكية تسعى إلى منعها كما روسيا من أن تكون قطباً موازياً لها، وتدرك الصين أيضاً خطورة المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة الأمريكية على المستوى الاقتصادي والعسكري نظراً للتشابك والشراكة الاقتصادية، وما لذلك من مخاطر على الاقتصاد المحلي والعالمي ككل.
إلا أن الصين تدرك أيضاً أن المواجهة مع الولايات المتحدة حتمية، وهذا لا يمكن تلافيه على المدى المتوسط والبعيد، فالولايات المتحدة تستخدم كل الأساليب من أجل إضعاف الصين، سواء من خلال اختراق الصين داخلياً، أو من خلال تغيير قواعد اللعب في بحر الصين الجنوبي، وكوريا الديمقراطية، وعلى الرغم من التطورات الأخيرة بعد مبادرة كوريا الديمقراطية للتفاوض مع واشنطن بخصوص الملف النووي، إلا أن مسار التسوية مع كوريا الديمقراطية سيكون مساراً طويلاً ومتعرجاً كون الولايات المتحدة لا تسعى إلى تسوية وإنما لفرض هيمنة.
هذا الواقع المتغير في المنطقة والعالم يفرض على الصين تحديات داخلية منها التصدي لمحاولة الاختراق الداخلي باستخدام الفكر التكفيري الإرهابي، والى تطوير أساليب حرب “السايبر” وأمن المعلومات، إضافة إلى بناء شراكات اقتصادية مع دول آسيا، وأفريقيا، وروسيا، وتحديد الالتزامات والمواقف من أجل مواجهة المشاريع الغربية، والمساهمة في رسم ملامح العالم الجديد، وهذا يستدعي بالضرورة تشكيل تحالف مع روسيا، ومساهمة صينية في التسويات الإقليمية المنحازة لمصلحة شعوب المنطقة، ومصلحة الصين، وبالأخص في منطقة الشرق الأوسط، حيث مصالح الصين الاقتصادية، ومورد الطاقة الأساسي، والبعد التاريخي للعلاقات المميزة.
– سورية واللاعبون الإقليميون
راهن الغرب من خلال استهداف سورية لتغيير موقعها الجيوسياسي إلى موقع مساند للغرب تحت الهيمنة الأمريكية، وخاضت سورية حرباً معقدة ومركبة ضد الجماعات الإرهابية المدعومة غربياً، واستطاعت الصمود خلال السنوات الأولى من الصراع، وصولاً إلى أخذ زمام المبادرة والتحول إلى الهجوم المضاد بمساعدة من حلفائها الروس، والصينيين، والإيرانيين، وحزب الله، وهذا أدى إلى تغير خارطة الصراع في سورية والمنطقة.
الاستهداف الأمريكي لسورية والعراق سعى لنشر الفوضى واستبعاد أية إمكانية لانتصار سورية وحلفائها في المنطقة، والذي سيؤدي بالضرورة إلى انبثاق عالم جديد متعدد الأقطاب ينهي الهيمنة الأمريكية في الشرق الأوسط.
النجاح الذي حققته سورية وحلفاؤها أربك الولايات المتحدة ودفعها للعمل على إعادة إنتاج الأزمة من جديد من خلال العودة إلى المشاريع القديمة “الشرق الأوسط الجديد”، وتغيير الأنظمة، بالتلازم مع حملة إعلامية وسياسية ضد سورية وروسيا، واتهام الحكومة السورية باستخدام السلاح الكيماوي، والاعتداء المباشر على مواقع سورية، فالخداع والكذب والتلفيق والمناورات السياسية هي الأسلوب المتبع من قبل الولايات المتحدة الأمريكية ضد سورية وحلفائها.
المخاطر مازالت كبيرة، ومحاولات الولايات المتحدة الأمريكية تغيير الواقع على الأرض مازالت مستمرة، وعلى الرغم من أن الإنجازات المتراكمة لمحور سورية وحلفائها قد أصبحت كبيرة، إلا أننا نشهد الآن الانتقال في الصراع إلى المواجهة مع القوى الأصيلة المعادية أي تركيا، “إسرائيل”، والولايات المتحدة.
الحرب أكبر من سورية، حيث أصبحت سورية ساحة للصراع الإقليمي والدولي، والتحديات المستقبلية التي تواجه سورية والمنطقة تستدعي العمل على عدة جبهات سياسية وعسكرية، وإلى تبلور عقيدة جيوسياسية جديدة متوافق عليها في المنطقة.
الاستنتاجات والتوصيات
يبقى التحدي الأكبر الذي يواجه المنطقة والعالم هو المنظمات الإرهابية التكفيرية والمنظمات من غير الدول التي تستخدمها الولايات المتحدة الأمريكية من أجل إحداث اضطرابات وفوضى واستهداف الدول الصاعدة، ولا بد من تطوير استراتيجية شاملة لمواجهة هذا الخطر بالتوازي مع التصدي لحرب الأفكار وحروب “السايبر” من خلال:
1- لابد لروسيا من الانتقال النهائي إلى موقع جديد بعيداً عن مفهوم الشراكة مع الغرب، ودون تردد، لأن هذه الشراكة غير ممكنة على المدى المتوسط والبعيد في ظل التناقض في الأهداف الجيوسياسية.
2- لابد من رسم تحالف قوي وراسخ ما بين الصين وروسيا لمواجهة المخاطر والتحديات الأمريكية والغربية من أجل الانتقال بالعالم إلى التعددية القطبية.
3- لابد من الإدراك بأن تراجع الولايات المتحدة الأمريكية في آسيا الوسطى، وضعف حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا، هو عامل مهم، إلا أن التردد في مواجهتها قد يعطيها الوقت من أجل إشعال جبهات جديدة في آسيا الوسطى من خلال وجودها في أفغانستان، وتحريك جبهة أوكرانيا من جديد، ولا يستبعد أن تسعى في المدى القريب إلى إحداث اضطرابات في الصين باستغلال “الايغور” الذي كان لهم دور تخريبي في سورية كجزء من الجماعات الإرهابية.
4- على سورية وحلفائها الاستمرار في تحرير المناطق المتبقية من الإرهاب والاحتلال التركي والأمريكي لضمان وحدة وسيادة سورية، ورفض أية مشاريع للفدرالية والتقسيم.
5- توطيد العلاقات الاستراتيجية ما بين سورية والصين وروسيا وإيران، والعمل على جذب باكستان لتكون قوه داعمة ومساندة.
6- ممانعة أية إمكانية لتنفيذ صفقة القرن “الإسرائيلية- الأمريكية- السعودية” التي تهدف إلى إنهاء القضية الفلسطينية، وسرقة الأرض والثروات، وتكريس واقع صهيوني- أمريكي جديد في المنطقة.
7- على سورية وحلفائها تطوير ذراع إعلامي يكون قادراً على مواجهة الإعلام الغربي المسيطر في المنطقة والعالم، بالتوازي مع تحول ثقافي شامل يواجه التحديات الداخلية، ويأخذ بعين الاعتبار إعادة الهيكلة للبنية الاقتصادية والثقافية، وتطوير استراتيجية عمل بمساعدة الحلفاء لمواجهة حرب الأفكار بالتوازي مع إعادة الإعمار.
8- لابد لسورية والعراق من العمل ضمن استراتيجية واحدة تؤدي بالنهاية إلى صياغة تحالف وسياسيات موحدة لمواجهة التحديات المستقبلية، وصياغة توافقات مع الدول الحليفة مثل روسيا والصين.
في النهاية إننا نشهد مرحلة صراع متفاقم في ظل بيئة معقدة وخطيرة، إلا أن مآل الأمور في المنطقة والعالم يؤشر إلى وجود فرصة حقيقية لسورية وحلفائها للانتصار وتغيير العالم، والحزم والثبات في المواجهة على كافة المستويات سوف يشجع دولاً كثيرة على الوقوف إلى جانب هذا المحور.
العالم يراهن على أداء روسيا والصين وحلفائهما، حيث سيشهد العقد القادم تغييرات جيوسياسية واستراتيجية قد تؤدي إلى تغيير المشهد الحالي لخارطة الصراع العالمي، ونأمل أن يتوازن العالم بمفاعيل ومسارات جديدة تخدم مصالح شعوب المنطقة والعالم، فالفرصة متاحة الآن أكثر من أية حقبة تاريخية أخرى.
عبدالله أحمد
Comments are closed.