وقفات اليَقين
بشرى الحكيم
بثبات وقف المتهم أثناء محاكمته، وبيقين المؤمن أجاب على أسئلة الضابط المكلف بمهمة الاستجواب قبيل إطلاق الحكم الذي تلقاه الشيخ بكل شجاعة، أجاب بنعم واضحة وصريحة، نعم ثابتة: هل حاربت الدولة الإيطالية؟ هل شجعت الناس على مقاومتها؟ وهل أنت مدرك لعاقبة الأمر الذي كنت تقوم به؟ نعم أيها السيد نعم لقد حاربتها ولازلت طوال عشر سنوات، ولست بنادم على ما فعلت وأدرك أكثر منك أنه في قوانينكم ليس سوى الإعدام ما ينتظرني.أنا حزين أن تكون هذه خاتمة حياتك يقول له الضابط فيجيبه هي الطريقة الأفضل التي يتمنى أن يختتم بها وجوده. لم ييأس القاضي فعرض على المتهم العفو عنه لقاء أن يوجه رسالة لرجاله الذين واصلوا القتال بعده، أجابه عمر بيقين المؤمن بعدالة قضيته: لا يمكن لهذه السبابة المؤمنة أن تكون شاهد زور، لا يمكن لها أن تخون الحقيقة التي راهن بحياته لأجلها.. هكذا أَرغَم عمر المختار التاريخ على الوقوف خاشعاً عند حادثة إعدامه التي هزت عدوه قبل شعبه، ويدرج في صفحاته سيرة بطل ليس للزمن أن يغيبه عن الأذهان.
هي مهمة التاريخ أن يرصد حركة البشرية ويسجل حادثاتها سواء كانت فردية أو جماعية أو كونية خارجة عن إرادة الجميع، إذ هو يغتني منها بما يُحدث الأثر أثناء حدوث الأمر أو في الأزمنة التي تأتي تباعاً، وللمفارقة فالتاريخ يعترف أنه ليس انتقائياً لدرجة التفريق بين حادثة إيجابية أو سلبية فالأمر عنده مرهون بـ كيف يرتد الأمر على الآخرين سلباً أو إيجاباً أو كما يرغب الكثير اليوم بتأويلها، إذ ليست سوى “وجهات نظر”! بل لعله أي التاريخ يَزخر بالكثير من فظائع الحوادث التي تفتقت عنها “البشرية” من أذية وكوارث وأساليب في نشر الشرور في العالم، لهذا نقرأ عن الآلهة وأشباه الآلهة، عن ملاحم الأولين جلجامش وتموز وعشتار نقرأ عن الإلياذة والأوديسة أحداثاً يدرجها البعض بين الأساطير ويقرأها العقل مجرد تسجيل تاريخي لحوادث جرت في الماضي بعين ابن الزمن الحالي، ويسكن الصفحات أشخاص مثل نابليون ونيرون وهتلر ومانديلا زنوبيا وبلقيس كل بما اقترفت يداه أو بما تفتق عنه ذهنه، ونشهد الكوارث عبر الأزمنة، محارق ومجازر، حروب إبادة وطوفانات جرفت في طريقها كل شيء، عن حوادث صغيرة وكبيرة، عن آخر جندي قتل في الحرب العالمية الأولى قبل توقيع الهدنة بدقيقة واحدة من الزمن، وآخر إعدام علني في الولايات المتحدة أثار غضب الشارع فألغي القانون إثرها.
أحداث عظيمة أسعدت الناس وأخرى كانت النكبات بعينها، ووقفات لأفراد بعضها للذل عنوان مثل أن يأتي وفي قضية هي “قضية العرب الأولى” يقف من يطالب الضحية بالتسليم لقاتلها ومد اليد له وإلا “لقد أتعبتمونا فلتصمتوا وتتوقفوا عن الشكوى” إذ لم تعد قضيتكم من الأولويات” ليأتي الشهيد الفلسطيني فادي أبو صلاح ويوجه له الصفعة إذ يواجه جنود الاحتلال بلا قدمين فيرغم التاريخ على الوقوف خاشعاً مرة أخرى، ويقول للجميع بالفعل لا بالقول: إن وقفات العز لا تحتاج إلى مناصب أو أموال، حتى أنها كما قال أحدهم بعد استشهاده “وقفات العز لا تحتاج إلى قدمين”.