الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

تلال القش..!

حسن حميد

سألتُ صديقي الناقد ما سرّ الإقبال على كتابة قصيدة النثر على هذا النحو الذي جعل قصيدة العمود تنكمش على عدد من الأسماء، كما جعل قصيدة التفعيلة عالماً ضيقاً يدور فيه بعض الشعراء، فلا يلحق بهم سوى نفر قليل من عشاق الشعر وسحرته؟! ولماذا تخلو القصائد النثرية المتكاثرة يومياً من الجماليات التي مايزت الشعر من غيره من الفنون الأدبية؟!
قال: لنعترف أن ما من أحد عاقل يؤمن بالتطور والتقدم والحداثة، إلا ويؤمن بأن قصيدة النثر وجه من وجوه تطور القصيدة العربية، بل والقصيدة العالمية أيضاً، لأنها ذات نظرة إبداعية لرفد الإبداع بأجواء مضاعفة من الحرية الفنية، أي افتكاك القصيدة من الأسر وقيوده! وقد رأينا قصائد كثيرة، عربية وغير عربية، لم تكن ترسيماتها على صيغة عمود البيت، ولا على صيغة التفعيلة، محتشدة بالجمال والبهاء، وقادرة على تحريك الذات البشرية عبر الأسئلة التي واقفتها، والانتباهات التي أشارت إليها، والجماليات التي اقترحتها، لأن القناعة متجلية في أن التطور ينبع من القاعدة مثلما ينبع الماء من الأرض، فمن كتب قصيدة البيت وأجاد، أجاد أيضاً حين كتب قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر لأن المصدرية واحدة، والشغف واحد، والحرص على الجمالي واحد! ولهذا أقفل الجواب هنا بأن قصيدة النثر هي وجه من وجوه تطور القصيدة العربية، هي اقتراح جميل لا يخلو من المغامرة والجرأة الذاهبتين في دروب الحداثة لاستلال الجمال المغوي، ودائماً كانت الاشتقاقات الجديدة مغامرة وجرأة، انطلاقاتها تعترف بما سبقها من فعل شعري من أجل الثورة عليه أو من أجل المضايفة، ولكن هذه المغامرة ما زالت تعاني، من أمور كثيرة، لعل في طالعها الضحالة، وغياب الجمالي، وعدم بدو شواغل الشعر الأساسية داخل النص النثري، وضبابية الطموح العلوق بالشعر، أعني الصعود في مراكب لا يراها إلا المجاز، إن رضا أهل قصيدة النثر بالقليل من المتطلبات، والقليل من المدهش، والحيي من الجمالي، وتغليب القولي الثقيل على الراعش الأهيف جعل قصيدة النثر خالية من الومض والنور، وكل نص خالٍ من الومض والنور هو نص مطفأ وأعمى وليس هو من مواليد الداهش المحلوم، ولعل حال التراكمية لقصيدة النثر، هي حال تعب وترميد لقصيدة النثر، وتجلية لعيوبها التي تعبر عن عدم تمكن من يكتبونها من آلة الإبداع، بالطبع لا للتعميم، ولكن الكثرة الكاثرة من نصوص قصيدة النثر تعبر عن أعراض التعب والرهق والانطفاء والرضا بالتحبير الأولي ظناً به أنه العفوية الأولى أو البكورية التي تأتي بالمُنادى عليه من أزمنة بعيدة!
ومع أن أسباباً كثيرة تهيأت وحضرت أمام قصيدة النثر كيما تصير عنواناً إبداعياً، وجهة للجذب الجمالي، غير أنها لم تصبح كذلك إلا في بعض تمظهراتها، ومن تلك الأسباب انحسار شبوب قصيدة العمود وتطاولها، وعدم انتشارها بين أجيال الشعر الطالعة إلا على نحو تقليدي باهت، وكذلك اصطدام قصيدة التفعيلة بجبل اسمه التقليد، والتكرار، والدوران حول النفس بدلاً من الدوران في البعد الجمالي!
إن الإقبال الشديد على كتابة قصيدة النثر أبدى عيوبها الكثيرة، مثلما أبدى رضاها بالقليل، وهذه الصفة ليست من صفات الشعر. وهذه الكثرة وشدة الازدحام عليها وحولها لا تقدم أهميتها قدر ما تقدم الهشاشات العاطبة التي عرفتها، والتي هي في مناقلة شائهة من تجربة إلى أخرى.
قصيدة النثر، ولكي تنهض وتشرق، بحاجة إلى خيول من الشعراء تجري في أوردتها حميّا عشق الشعر، وعشق المضايفة، وعشق الفرادة! وإلا ستبقى مثل تلال القش ذاكرة عن قمح كان في يوم من الأيام بيادر غلال!
Hasanhamid55@yahoo.com