الضالون والفهم الخاطئ للحاكمية
عبد الرحمن غنيم- كاتب وباحث من فلسطين
لعل آخر شيء يمكن أن يخطر ببال أي واحد منا أن يكون الفهم الخاطئ للحاكمية هو السرّ الكامن وراء قوله عز وجل عن فئة الضالين: [ ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين+ يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون] “البقرة 8 و 9″، ولكن قبل أن نبيّن هذه المسألة ونستبين ملامحها لابدّ لنا بداية من الوقوف عند مسألة الحاكمية كما تطرحها بعض الجماعات السلفية أو السلفية الجهادية.
لقد كانت ومازالت دعوة سيد قطب إلى التسليم الكامل لحاكمية الله، ولسيادة المنهج الرباني كما قال، شرارة البدء في إشعال الثورة ضد أعداء الإسلام في الداخل والخارج كما أسماهم، والتي مازالت فصولها الدامية تتجدد يوماً بعد يوم.
وهذا يعني أن تنظيم “القاعدة” إنما يأخذ بالمفاهيم ذاتها التي تأخذ بها جماعة “الإخوان المسلمين”، وأن سيد قطب هو المصدر الأساسي لهذه المفاهيم، وأن فكرة “الحاكمية” هي المحور الأساسي الذي تقوم عليه هذه المفاهيم، فلنتوقف إذاً عند أفكار سيد قطب.
يقول سيد قطب في كتابه “معالم في الطريق”: “إن هدف الإسلام لم يكن تحقيق القومية العربية، ولا العدالة الاجتماعية، ولا سيادة الأخلاق، وإنه لو كان الأمر كذلك لحققه سبحانه وتعالى في طرفة عين”.
ولا ريب أن هذا المنطق يجعلنا نتساءل ببراءة متناهية: وماذا يمكن أن يكون ذلك الهدف الذي لا يمكن أن يحققه سبحانه وتعالى “في طرفة عين”؟!.. إن مجرّد استدراجنا إلى طرح مثل هذا السؤال من شأنه أن يجعلنا نلمس ما ينطوي عليه منطق سيد قطب من اضطراب، فهو يقول، ونحن هنا نستأنف النص السابق: “ولكن الهدف هو إقامة مجتمع الإسلام الذي تطبّق فيه أحكام القرآن تطبيقاً حرفياً، وأول هذه الأحكام أن يكون الحكم نفسه لله، وليس لأي بشر أو جماعة من البشر، وأن أي حاكم إنسان، أي مسؤول إنسان، ينازع الله سلطته، بل إن الشعب نفسه لا يملك حكم نفسه لأن الله هو الذي خلق الشعوب، وهو الذي يحكمها بنفسه”.
هل نحن هنا أمام مقارنة بين “حاكمية الله” و”حاكمية البشر” بحيث يدعو سيد قطب إلى الانحياز لحاكمية الله ونبذ حاكمية البشر، أم نحن أمام صراع يتخيله بين “حاكمية الله” و”حاكمية البشر” يعتدي فيه البشر– ونعوذ بالله من هذا التعبير- على حاكمية الله؟.. وإذا كان الأمر كذلك ألا يستطيع جل جلاله، وهو القادر على كل شيء، أن يحسم هذا الصراع في “طرفة عين”، أم أنه لابد له من انتظار بشر يحسمون هذا الصراع لصالح حاكميته؟.
لنلاحظ أنه إذا كان سيد قطب يرفض حاكمية البشر بشكل مطلق، فهذا يفترض أنه يعني رفضه لكل أشكال الدولة والسلطة والسلطان التي يمارسها البشر على الأرض، وفي هذه الحالة فإنه يقع في مطبين: أولهما أنه يعترض على إرادة الله عز وجل كما سيتضح معنا من خلال تبيّن ما جاء في القرآن الكريم حول الحاكمية عند البشر، وثانيهما أن سيد قطب يكون قد التقى مع الفلسفة الماركسية اللينينية فيما تذهب إليه في “المادية الديالكتيكية” و”المادية التاريخية” من تصوّر مفاده أن المجتمعات البشرية يجب أن تتجه نحو إنهاء دور الدولة لصالح سيادة المشاعية الشيوعية كبديل عنها، وكل ما في الأمر أن “قطب” يختلف من حيث المنطلق عن الماركسية في كون منطلقه دينياً، بينما كان منطلقها مادياً، لكن سيد قطب في الواقع يرفض حاكمية البشر ليأخذنا إليها مرة أخرى في نهاية المطاف، ما يجعل المسألة بالنسبة له انتقائية.
يقول قطب: إن وجود الأمة المسلمة قد انقطع منذ قرون كثيرة، ولابدّ من إعادة وجود هذه الأمة لكي يؤدي الإسلام دوره المرتقب في قيادة البشرية مرة أخرى، لابد من بعث تلك الأمة التي واراها ركام الأجيال، وركام التصوّرات، وركام الأوضاع، وركام الأنظمة التي لا صلة لها بالإسلام، وهنا نلاحظ أنه نفى وجود الأمة الإسلامية مثلما سبق ونفى وجود الأمة العربية من خلال نفي القومية العربية، وكأن وجود الأمم خاضع للتصورات العقائدية حولها، وليس وجوداً واقعياً قائماً بشكل عملي.
إن إنكاره لوجود الأمة الإسلامية عائد لقوله: “إن العالم يعيش في جاهلية، وهذه الجاهلية تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله في الأرض، وعلى أخصّ خصائص الألوهية وهي الحاكمية، إنها تسند الحاكمية إلى البشر”.
ونفهم هنا أنه وصل إلى حكم قاطع يرفض فيه إسناد الحاكمية إلى البشر، لكنه لا يلبث أن يقول: “إن المنهج الإسلامي ينفرد عنها، فالناس في كل نظام غير النظام الإسلامي يعبد بعضهم بعضاً، وفي المنهج الإسلامي وحده يتحرر الناس جميعاً من عبادة بعضهم لبعض، وهذا هو التصوّر الجديد الذي نستطيع إعطاءه للبشرية”.
لا شك أن كلّ واحد منا يدرك أن “العبادة” شيء، وأن “إطاعة أولي الأمر” في أي نظام سياسي شيء آخر، وأنه لا يجوز الخلط بين الأمرين، فقد أمر الله الناس أن يعبدوا الله وحده، وأمرهم أيضاً بإطاعة أولي الأمر منهم، وإذا كانت إطاعة أولي الأمر في الأنظمة التي يحكمها بشر في نظره عبادة، أي كفراً، ألا يعني هذا أن النظام الجديد الذي يدعو إليه يجب ألا يحكمه بشر، وألا تسند فيه الحاكمية للبشر؟.
يقول سيّد قطب منتقداً التجربة الإسلامية تاريخياً بشكل عام: “ليس الطريق أن تخلص الأرض من يد طاغوت روماني أو طاغوت فارسي إلى يد طاغوت عربي، فالطاغوت كله طاغوت، إن الأرض لله، وليس الطريق أن يتحرر الناس من هذه الأرض من طاغوت إلى طاغوت، إن الناس عبيد الله وحده، لا حاكمية إلا لله، ولا شريعة إلا من الله، ولا سلطان لأحد على أحد، وهذا هو الطريق”.
إذاً، “لا سلطان لأحد على أحد”، وهكذا نفهم مرة أخرى أنه يرفض كل شكل من أشكال الحكم تسند فيها السلطة للبشر، ونفهم أكثر من ذلك أنه يرفض الفتوحات الإسلامية حتى في زمن الخلفاء الراشدين بدلالة حديثه عن طاغوت روماني وطاغوت فارسي وطاغوت عربي “حل محلهما”، وهذا يعني عملياً رفض كل سلطة أرضية باعتبارها تنتمي إلى حاكمية البشر، ولكنه سرعان ما سيناقض نفسه ويقول: “لابدّ أولاً أن يقوم المجتمع المسلم الذي يقر بعقيدة: لا إله إلا الله وأن الحاكمية ليست إلا لله، وحين يقوم هذا المجتمع فعلاً تكون له حياة واقعية، وعندئذ فقط يبدأ هذا الدين في تقرير النظم وفي سنّ الشرائع”.
هل نفهم من هذا الكلام أن ثمة نظماً وشرائع جديدة ستسنّ غير ما جاء به الإسلام؟ ومن الذي سيتولى سنها؟ هل هي الجماعة أم المجتمع الجديد الذي ستشكّله الجماعة؟.
إن هذا السؤال يصير أكثر إلحاحاً حين يقول لنا سيد قطب بعد ذلك: “إن دعاة الإسلام حين يدعون الناس لإنشاء هذا الدين يجب أولاً أن يدعوهم إلى اعتناق العقيدة حتى لو كانوا يدعون أنفسهم مسلمين، وتشهد لهم شهادات الميلاد بأنهم مسلمون، ويعلمونهم أن كلمة لا إله إلا الله مدلولها الحقيقي رد الحاكمية لله، وطرد المعتدين على سلطان الله”.
لنفترض أننا وافقنا سيد قطب على هذه الثورة، فماذا يتوجب علينا أن نفعل؟.
يقول: “إن هذا الإعلان العام لتحرير الإنسان في الأرض لم يكن إعلاناً نظرياً فلسفياً، وإنما كان إعلاناً حركياً واقعياً إيجابياً، ومن ثم لم يكن بد من أن يتخذ شكل الحركة إلى جانب شكل البيان”.
حسناً، تعالوا نوافق معه على البيان، وننضم معه إلى الحركة، لنرى إلى أين سنصل في نهاية المطاف؟!.
يقول: إن “المجتمع الإسلامي وليد الحركة.. والحركة هي التي تعين أقدار الناس فيه وقيمتهم، ومن ثم تحدّد وظائفهم ومراكزهم”.
عند هذه النقطة يتوجب علينا أن نقف، لقد قبلنا بالبيان، والتحقنا بالحركة من أجل أن تحل “حاكمية الله” محل “حاكمية البشر”، وسعينا إلى الإجهاز على حكم البشر لتكون الدنيا بلا حاكمية بشرية، ولكن ها نحن أمام “حاكمية بشر” بديلة، حاكمية “تعين أقدار الناس”، و”قيمتهم”، “ومن ثم تحدّد مراكزهم ووظائفهم”، وهنا سنتجاوز مسألة أن الأقدار يحددها الله عز وجل وليس الجماعة أو الحركة كما يقول، لنتساءل: ما الأمر؟ وما هذا التناقض؟.. لقد بنينا من خلال توسع الحركة مجتمعاً إسلامياً يحل محل المجتمع الذي أنكر إسلاميته، ولكن من أين جاءت “الحركة” بحقها في أن “تعين أقدار الناس فيه وقيمتهم، ومن ثم تحدد وظائفهم ومراكزهم”؟ هل تدخل هذه الأشياء في نطاق حاكمية البشر التي نبذها بكل أشكالها، أم هي خاضعة لحاكمية الله عز وجل، وعندئذ ألا يشكّل قيام الحركة بهذا الدور اعتداء من البشر على حاكمية الله، أم أنه يجوز لحركة الإخوان المسلمين حصراً ما لا يحق لغيرها؟!.
دعونا نتذكر أولاً أن كلمة “الحاكمية لله” و”لا حاكمية إلا لله” كلمة قالها الخوارج قديماً، وكانت وسيلتهم إلى تشقيق الجماعة الإسلامية وتفريق الصفوف، وهي الكلمة التي قال عنها الإمام علي: “إنها كلمة حق أريد بها باطل”، فما جاء به سيد قطب إذاً قد لا يكون سوى استئناف لمنطق الخوارج، ومن المؤكد أنه كان يعرف بأنّ الخوارج يسمّون المُحكمة لإنكارهم أمر الحكمين، وقولهم: لا حكم إلا لله، قال ابن سيدة: “وتحكيم الحرورية قولهم لا حكم إلا لله ولا حَكَمَ إلا الله، وكأنّ هذا على السلب لأنهم ينفونَ الحكم”، لكن الحُكم بمعنى التحكيم شيء، والحكم بمعنى السلطة شيء آخر، ومع ذلك تبقى المشكلة قائمة: إن من يرفض الحكم البشري باعتبار أنه لا حكم إلا لله، إنما يفترض وجوب تقويض أيّ نظام سياسي على وجه الأرض يحكمه البشر.
في تعقيبه على منطق سيّد قطب، وخاصة حول الحاكمية، يقول الشيخ محمد عبد اللطيف السبكي رئيس لجنة الفتوى بالأزهر: “وما معنى الحاكمية لله؟ هل يسير الدين على قدمين بين الناس ليمتنع الناس جميعاً عن ولاية الحكم، أو يكون الممثل لله هو شخصية هذا المؤلف الداعي، والذي ينكر وجود الحكام ويضع المعالم في الطريق للخروج على كل حاكم في الدنيا؟”، لكننا نرى أن جوهر المسألة أساساً يكمن في الإجابة عن السؤال التالي: هل حاكمية الله سبحانه وتعالى مطلقة أم نسبية؟.
إذا كانت هذه الحاكمية مطلقة فإن كل حديث عن اعتداء البشر عليها وعن منازعة حاكمية البشر لها يصير هراء ودجلاً، بل ويصل إلى مستوى الإلحاد، وإذا كانت هذه الحاكمية مطلقة فإن كل قول أو استنتاج يفهم منه أنها نسبية يمكن انتقاصها من قبل مخلوقات الله يكون تجذيفاً وقولاً باطلاً ودليلاً على نقص في الإيمان، وهذا ما سيقودنا بشكل تلقائي إلى فهم السر الكامن وراء أولئك الناس الذين يقولون إنهم آمنوا بالله وباليوم الآخر [وما هم بمؤمنين]، فإذا كان منطقهم قائماً على القول بنسبية هذه الحاكمية، وإمكانية انتقاصها فهذا يعني تلقائياً أنهم ليسوا مؤمنين.
إن كون حاكمية الله مطلقة تدلل عليه الكثير من الآيات في القرآن الكريم، ومنها قوله عز وجل: [ولله مُلكُ السموات والأرض وإلى الله المصير] “النور 42″، ومعنى ذلك أن كل من في السموات والأرض مصيره أن يقف بين يدي الله للحساب سواء كان حاكماً أو محكوماً، كما يقول تعالى: [ولله مُلكُ السموات والأرض واللهُ على كل شيء قدير] “آل عمران 189″، ومعنى هذا أنه ما من أحد في السموات والأرض يمكنه أن يعتدي على حاكمية الله جلت قدرته.
ويقول سبحانه وتعالى: [الذي له مُلكُ السموات والأرض ولم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدّره تقديراً] “الفرقان 2″، فحاكمية الله المطلقة لا شريك له فيها، فكيف يحق لأية جماعة أو فئة أو شخص ادّعاء الحق بالحاكمية سواء بمعاكسة حاكميته أو حتى بادعاء تمثيله في هذه الحاكمية؟.. إنه هو من يحكم على الجميع.
إن حاكمية الله شيء، والحكم الذي يمارسه البشر على الأرض شيء آخر، ولا يجوز الخلط بينهما، يقول سبحانه وتعالى: [وهو اللهُ لا إلهَ إلا هو له الحمدُ في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون] “القصص 70″، فالحكم له وحده، ولا يجوز لبشر أو لحركة من البشر ادّعاء تمثيله في الحكم.
إن وجود ملوك في الأرض وحكام، مؤمنين كانوا أو غير مؤمنين، لن يغيّر شيئاً من حقيقة أن الله هو المهيمن على الجميع، وأن كلّ شيء يتم بإرادته ومشيئته، يقول سبحانه وتعالى: [قل اللهم مالك الملك تؤتي المُلكَ من تشاء وتنزعُ المُلكَ ممّن تشاء وتعزُّ من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير] “آل عمران 26″، فهل هناك أدنى شك عندئذ في أن حاكمية البشر بكل أشكالها هي بإرادته وتحت هيمنته، وليست رغم إرادته، كما أراد سيّد قطب تصوير الأمر؟!.
ويقول سبحانه وتعالى أيضاً: [وهو الذي في السماء إلهٌ وفي الأرض إلهٌ وهو الحكيم العليم+ وتبارك الذي له مُلكُ السموات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون] “الزخرف 84 و85″، كما يقول تعالى: [تبارك الذي بيده الملكُ وهو على كل شيء قدير+ الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور] “المُلك 1 و2”.
إن حاكمية الله هي حاكمية مطلقة، ولا ترتبط بإرادة إنسان أقرّ بها أو أنكرها، ولا بإرادة جماعة أو حركة سلمت بها أو لم تسلم، يقول تعالى: [وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير] “الأنعام 18″، كما يقول تعالى: [ولله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدو ما في أنفسكم أو تخفوهُ يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاءُ والله على كل شيء قدير] “البقرة 284”.
ولا نعتقد أن أحداً من المسلمين يمكن أن تفوته الحقيقة القائلة بأن الإقرار بهذه الحاكمية وأبعادها وارد في آية الكرسي، وهي الأكثر تلاوة عند الناس بعد الفاتحة، وذلك في قوله تعالى: [الله لا إلهَ إلا هو الحيُّ القيّومُ لا تأخذهُ سِنةٌ ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفعُ عندهُ إلا بإذنه يعلمُ ما بينَ أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيّه السموات والأرض ولا يؤدّهُ حفظهما وهو العليّ العظيم] “البقرة 255″، فهذه هي حاكمية الله الشاملة لكل شيء.
إن أشكال السلطة والسلطان في الأرض أو “حاكمية البشر”– وفق منطق قطب– لا تنتقص من حاكمية الله بأية صورة من الصور، ثم إنها في حكمه تعالى جزء من واقع الحياة الدنيا، وعنها يقول تعالى: [اعلموا أن الحياة الدنيا لعبٌ ولهوٌ وزينةٌ وتفاخرٌ بينكم وتكاثرٌ في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيجُ فتراه مصفرّاً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذابٌ شديدٌ ومغفرةٌ من الله ورضوانٌ وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور] “الحديد 20″، فإذا قال سيد قطب إن هذه جاهلية قلنا أليست هذه هي الحياة الدنيا كما أرادها الله وكما وصفها وهو أحكم الحاكمين؟.. فهل أراد سيد قطب أن يعترض على حكم الله وإرادته؟ بل إن سيد قطب حين تكلم عن اعتداء البشر على حاكمية الله كان يخالف القرآن الكريم بشكل واضح لا لبس فيه، يقول سبحانه وتعالى: [قل مَن بيده ملكوتُ كل شيء وهو يُجيرُ ولا يُجارُ عليه إن كنتم تعلمون+ سيقولون لله قل فأنى تسحرون+ بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون] “المؤمنون 88و89”.
ترد [إن الحكم إلا لله] في القرآن الكريم في سورة يوسف، وذلك في قوله عز وجل على لسان يوسف: [ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون] “يوسف 40″، ويرد في تفسير الحكم هنا أنه الحكم النافذ المطاع، إن كلمة [الحكم] في سياق الآيات التي وردت فيها الآية إنما تعني وحدانية الله وقدرته على حكم كل شيء، وذلك في سياق رفض عبادة الأرباب المتفرقين، ولم ترد في سياق اتخاذ موقف مما أسميت بالحاكمية البشرية، بل إن الآية واضحة في قوله تعالى: [ذلك الدين القيم]، ما يعني أن الأمر يتعلق بالدين وليس بنظام الحكم، والدليل على أن هذا ما انصرف إليه ذهن يوسف النبي أنه [قال للذي ظنّ أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين] “يوسف 42″، والمقصود بربه هنا هو الملك أو العزيز، أي الحاكم، وقد كانت قدرة يوسف على “تعبير الأحلام” حكماً وعلماً أوتيه من الله [ولما بلغ أشدّه آتيناهُ حكماً وعلماً] “يوسف 22″، فأحكم الحاكمين يعطي حكماً وعلماً لمن يشاء من البشر، وإذا كان يوسف هو من قال [إن الحكم إلا لله] فإنه هو أيضاً من قال للملك بعد أن اطمأن إليه الملك وصار مكيناً عنده: [قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم]، “يوسف 55″، وهكذا احتل موقعاً في حاكمية البشر، فلو سلمنا بمنطق سيد قطب يكون يوسف النبي والرسول قد “عبد” ملك مصر أو عزيزها، طالما أنه اعتبر بأن العلاقة في الحاكمية البشرية تعني عبادة الحاكم، وهذا ليس صحيحاً حتى في وضعية بيع يوسف نفسه ليكون بضاعة أي رقيقاً أي عبداً للذي اشتراه من مصر كما هو معلوم في قصته، فالعبودية لله شيء، وعبودية البشر بمعنى الرق شيء آخر مختلف تماماً، وعبادة ملوك ادّعت الألوهية شيء، وطاعتهم كحكام من قبل شعوبهم شيء آخر.
وقبل تجربة يوسف هذه كانت التجربة التي واجهها سيدنا إبراهيم والمتمثلة في قوله عز وجل: [ألم ترَ إلى الذي حاج إبراهيم في ربّه أن آتاهُ الله الملكَ إذ قال إبراهيمُ ربّي الذي يحيي ويميتُ قالَ أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهتَ الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين] “البقرة 258″، ونحن هنا لسنا أمام ملك نبي، ولا أمام ملك مؤمن، بل أمام ملك كافر، بل وأكثر من ذلك ادّعى الربوبية، ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى يقول عنه: [أن آتاهُ اللهُ الملك]، فالحاكمية البشرية التي يجسدها هذا الملك مُدّعي الربوبية لا تنتقص من حاكمية الله، فهي بمشيئة الله، وليست رغم مشيئته، وهذا حكمٌ ينطبق على الحكام جميعاً في كل زمان ومكان.
ويقول سبحانه وتعالى عن آل إبراهيم، وهم من عباده المصطفين: [أم يحسدون الناسَ على ما آتاهم اللهُ من فضله فقد آتينا آل إبراهيمَ الكتابَ والحكمةَ وآتيناهم ملكاً عظيماً+ فمنهم من آمنَ به ومنهم من صدّ عنه وكفى بجهنم سعيراً] “النساء 54 و55″، فإيتاء الملك العظيم لا يرتبط بالضرورة مع الإيمان العظيم، فهناك من آمن به، وهناك من صد عنه والحكم في النهاية لله حين يحاسب كل امرئ على أفعاله، ويقول تعالى: [وقتل داود جالوت وآتاهُ اللهُ المُلكَ والحكمةَ وعلّمهُ ممّا يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين] “البقرة 251″، وهنا نفهم أن الدفع والتدافع وراءه حكمة إلهية للحيلولة دون فساد الأرض، ويبقى أن إيتاء الملك العظيم لآل إبراهيم أو إيتاء الملك لداود يعني أن الله عز وجل هو من أقر الحاكمية البشرية، وكل ما في الأمر الفارق بين حاكمية ملك مؤمن أو حاكمية ملك ضال، تماماً كالفارق بين مؤمن تقي وبين الضال، يقول تعالى: [يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذابٌ شديدٌ بما نسوا يوم الحساب] “سورة ص 26″، وحين ورث سليمان داود [قال ربِّ اغفر لي وهب لي مُلكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعدي إنك أنت الوهاب] “سورة ص 25″، والسؤال هنا: إذا كان النظام السياسي الذي تحدث عنه سيد قطب كهدف لجماعة الإخوان يمثل “الحاكمية الإلهية” فهل سيفوق مُلك سليمان أم سيكون دونه؟!.. يكفي أن نطرح مثل هذا السؤال لنفهم طبيعة المأزق الذي يثيره منطق سيد قطب.
إن فكرة “النزاع” بين حاكمية الله وحاكمية البشر إنما تعود الى التقليد اليهودي، فحين قال بنو إسرائيل إلى نبي لهم: [ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله] “البقرة 246” قيل إنه ساءَ الأمر في عيني نبيهم صموئيل، “وصلى صموئيل إلى الرب، فقال الرب لصموئيل: اسمع لصوت الشعب في كل ما يقولون لك، لأنهم لم يرفضوك أنتَ بل إيايَ رفضوا حتى لا أملك عليهم” “صموئيل الأول 8 : 7-8″، وهكذا جرى تصوير الموقف على أن بني إسرائيل رفضوا حاكمية الله وآثروا حاكمية البشر، وهكذا أيضاً بدا وكأن الرب عز وجل لم يجد بداً من القبول برفض حاكميته!!.. وهذا منطق قائم على التشكيك بحاكمية الله المطلقة، يماثل تماماً المنطق الذي اعتمده سيد قطب.
إن هذا المنطق الذي ينظر إلى حاكمية الله على أنها نسبية، وقابلة للاعتداء عليها من قبل البشر، وتحتاج إلى من يتقدم لإنقاذها من البشر، إنما هو في حد ذاته دليل على نقص في الإيمان إن لم يكن بوحدانية الله فبقدرته وحاكميته المطلقة على كل شيء، فالحاكمية البشرية– مهما كان شكلها ومضمونها– ليست إلا أحد التعابير النظامية عن حاكمية الله المطلقة، ولا يمكنها إلا أن تكون كذلك، يقول سبحانه وتعالى: [وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم] “الأنعام 165″، فالحاكمية البشرية هي الموصوفة في هذه الآية، وركناها: الاستخلاف في الأرض والسلطة، وفي ممارسة الناس لهذا الدور يكونون في وضعية من يبتليهم الله فيما آتاهم أيختارون الهدى أم يجنحون إلى الضلالة، وما من أحد فيهم إلا وسيمثل أمام الله يوم الحساب، فكيف يكون من هو قيد الاستخلاف، ورهن التجربة، ويمثل في نهاية المطاف للمحاسبة يمارس حاكمية تنتقص من حاكمية الله أو يمارس حاكمية الله أو ينوب عنه فيها؟.
وما يؤكد هذا الاستنتاج قوله تعالى أيضاً: [هو الذي جعلكم خلائفَ في الأرض فمن كفرَ فعليهِ كفرُهُ ولا يزيدُ الكافرينَ كفرهم عند ربّهم إلا مقتاً ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خساراً] “فاطر 39″، فالاستخلاف هو للجميع المؤمن من البشر والكافر، والله هو من يحاسب الجميع يوم القيامة [مَن كفر فعليه كفرُه ومن عمل صالحاً فلأنفسهم يمهدون] ” الروم 44″.
لكن السؤال الأهم أخيراً: كيف يمكن لجماعة من البشر– أياً كانت هذه الجماعة– أن تزعم بأنها تنوب عن الله في إقامة حاكميته؟.. إن الحاكمية البشرية قد تكون راشدة مؤمنة أو كافرة أو ضالة “بين بين”، ولكنها لا يمكن أن تدعي تمثيل حاكمية الله بحال من الأحوال، وهنا نجد أنفسنا وجهاً لوجه أمام تفسير قوله عز وجل بأن من يستغلون موضوع الحاكمية الإلهية على هذا النحو [يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون] “البقرة 9″، فمن المؤكد أن أيّ إنسان منا ليس بوسعه أن يفسر منطقهم تجاه موضوع الحاكمية على أنه خداع، أو أن يعتبر بأن هذا الفهم الخاطئ والمخادع للحاكمية هو نقطة البداية في الضلال، أما الخالق عز وجل فهو يعلم سرهم ونجواهم مصداقاً لقوله تعالى: [أم يحسبون أننا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون] “الزخرف 80″، وإذا كان قد وصفهم بمخادعة الله والذين آمنوا ومخادعة أنفسهم فإن هذا يقودنا إلى استنتاج أنهم يمارسون التدليس.