الوهابية السعودية في خدمة المصالح الغربية
ترجمة وإعداد: هيفاء علي
صرح ولي العهد السعودي في حوار مع الواشنطن بوست بأن الغرب هو الذي شجع السعودية على نشر الفكر الوهابي في كافة أرجاء العالم، هذا التصريح قوبل بصمت في معظم وسائل الإعلام الغربية التي صمّت آذانها ولم تتطرق إليه لا من قريب ولا من بعيد، الغرب الذي قاد “حرباً أيديولوجية” ضد الاتحاد السوفييتي السابق، والدول الاشتراكية الأخرى، اختار الوهابية كحليف قوي للقضاء على كل الآمال والتطلعات التقدمية، المناهضة للامبريالية، فقد طلبت الدول الغربية من حكام آل سعود مساعدتها ضد الاتحاد السوفييتي السابق إبان الحرب الباردة، ما دفع السعودية إلى بناء الجوامع والمساجد والمدارس الدينية في معظم دول العالم لنشر الفكر الوهابي، وفي محاولة لمنع تدخل الاتحاد السوفييتي السابق في الدول الإسلامية.
ومن باب التذكير لا أكثر، فقد جاءت تسمية الوهابية نسبة إلى مؤسسها محمد بن عبد الوهاب (1703-1792)، فقد شن هذا اللاهوتي المنحدر من صحراء نجد، حيث كان يهيمن أمراء بني سعود، حملة تشدد ديني عام 1744 بذريعة العودة إلى الإسلام النقي الحقيقي، على حد زعمه آنذاك، بالقضاء على كل الاجتهادات والانحرافات التي أُلصقت به وأفسدته، فاحتضن أمراء نجد الحركة الوهابية بحماس شديد، وكرّسوا أنفسهم للنهوض بها بقوة السلاح، وبعد غزو قسم كبير من وسط وشرق شبه الجزيرة العربية، وجدوا أنفسهم وجهاً لوجه مع الامبراطورية العثمانية، ففي نهاية القرن الثامن عشر، هزموا العثمانيين، ما شجعهم على شن هجمات ضد العراق، تحديداً على كربلاء أحد أهم الأماكن المقدسة في العراق، وفي القرن الثامن عشر، بدأ توسع وتمدد الحركة يلامس العالم الخارجي، وعكف الوهابيون على الدعوة إلى محاربة الأجانب الذين خانوا الإسلام، وعملوا على تقويضه في الداخل، ليس هذا فحسب، بل محاربة كل من ساهم في إفساد وإهانة الإرث الديني الثمين، وبالتالي، كان من الطبيعي أن يتهموا ويدينوا كل الفروع الأخرى للإسلام، ويكفّروها، وكانوا يفرضون آراءهم بطريقة وحشية في كل مكان، يهدمون الأضرحة، ويدنّسون الأماكن المقدسة “المشركة”، ويقتلون كل من لا يوافقهم الرأي، فلم يسلم من حقدهم وشرهم لا النساء، ولا الأطفال، ولا حتى الشيوخ، استمرت ممارساتهم الوحشية تلك حتى يومنا هذا، خاصة بعد انتشارها في كل أرجاء العالم، حيث يتمتع مبشرو المذهب الوهابي بصلاحيات واسعة، وبمصادر مالية هائلة تساعدهم على الاستفادة منها، وتوظيفها للارتقاء بنشر عقيدتهم، ونشر التفسير الخاص بهم للإسلام والقرآن، وعليه، كثرت مراكز تعليم وإرشاد المذهب الوهابي في أوروبا، وأمريكا الشمالية، وآسيا الوسطى، وجنوب شرق آسيا، جميعها فيها نظام تدريسي عام، وهذه المراكز هي المؤسسات الوحيدة التي يتوجه إليها “المهتدون الجدد”، والأسر المسلمة التي تريد منح أطفالها أسس ومبادئ دينها “الحقيقي”، هذه المدارس التي تعتبر في الأساس مؤسسة عليا للتعليم والبحث، وولدت قبل الجامعات الكبرى في أوروبا القرون الوسطى، إلا أنها تحوّلت إلى مراكز لخدمة الوهابية السعودية.
ومنذ بداية تمدد الوهابية، انهارت دول الواحدة تلو الأخرى، وُدمّرت بسبب الجهل والخوف والنخوة التعصبية التي منعت شعوب دول مثل أندونيسيا بعد عام 1965، أو العراق عقب الغزو الغربي، من التقدم نحو مجالات طبيعية في ثقافتهم ذات الماضي العريق، ونحو الاشتراكية والعلمانية.. حقيقة، لا علاقة للإسلام بالوهابية التي أسسها محمد بن عبد الوهاب بمساعدة البريطانيين، وجوهر التحالف الوهابي- البريطاني بسيط جداً، يعمل رجال الدين على بث الخوف في قلوب الناس، وترسيخ الخضوع الناجم عن هذا الخوف، وأي انتقاد للدين مرفوض رفضاً قاطعاً، وعليه فإنهم يتوقفون عن طرح الأسئلة شيئاً فشيئاً جراء القمع الاقطاعي أولاً، ومن ثم القمع الرأسمالي، ويقبلون نهب مصادرهم الطبيعية من قبل أسيادهم المحليين والأجانب، فيما تم إحباط كل المحاولات الرامية إلى بناء مجتمع اشتراكي بطريقة وحشية باسم “الإسلام”، وبذلك ملأ الامبرياليون الغربيون وعبيدهم من”النخبة” المحلية جيوبهم بالثروات على حساب ملايين السكان المخدوعين والمُفقرين في الدول التي تسيطر عليها عقيدة الوهابية.
نسبة قليلة من السكان في الدول التي تعرّضت للحروب والاستعمار أدركت حقيقة أن الوهابية لا تخدم سوى المصالح الغربية، وهذا ما يجري حالياً في أندونيسيا، والعراق، وأفغانستان، السعودية تحارب كل الدول العلمانية ذات الأكثرية المسلمة مثل سورية، العراق، ليبيا، إيران، وأفغانستان، فالحالة التي تتواجد فيها أندونيسيا وأفغانستان ما هي إلا نتيجة مباشرة للتدخلات الغربية، وحقن العقيدة الوهابية الذي منح هذا “المشروع” الغربي صبغة إسلامية بتبرير آلاف مليارات الدولارات التي تم سكبها في “النفقات الدفاعية” الموجهة “للحرب العالمية على الإرهاب” التي أطلقها جورج بوش عقب هجمات الحادي عشر من أيلول، الغرب يريد من “زبائنه” ومستعمراته الجديدة إبداء الطاعة والخنوع لأسباب عديدة، إذ تشكّل السعودية منبعاً كبيراً بسبب نفطها، ووضعها الاستراتيجي في المنطقة، والحكام السعوديون يعملون كل ما بوسعهم لإرضاء أسيادهم في لندن وواشنطن باتباع سياسة خارجية مقربة من الغرب، أما أفغانستان فهي” ثمينة” بحكم وضعها الجغرافي الذي يساعد الغرب على تخويف إيران وباكستان، أو حتى غزوهما عبر تشكيل حركات إسلامية متطرفة في الصين، وروسيا، وفي جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة في آسيا الوسطى، ففي الفترة الواقعة بين عامي 1965 و 1966 قُتل أكثر من مليون أندونيسي على أيدي سلطة رأسمالية فاسدة لضمان استمرارية تدفق الصادرات الطبيعية دون ضرائب إلى أمريكا الشمالية، أوروبا، اليابان واستراليا، صراحة، لا شيء طبيعياً في دول كالسعودية وأندونيسيا، بل تلزمهما عقود طويلة وأجيال كي تعودا إلى الوضع الطبيعي البسيط، وحتى لو كانت العملية قد بدأت باكراً فإن الغرب يأمل في النهاية اختفاء كل الثروات الطبيعية فيهما، إلا أن العملية لم تبدأ بعد، والسبب الرئيس للركود الفكري وغياب المقاومة بديهي، فالشعبان السعودي والأندونيسي محكومان ومقيّدان بطريقة وبأخرى، بحيث يبدوان غير قادرين على رؤية الحقيقة الوحشية المحيطة بهما، فقد تم غسل عقولهما وإفهامهما بأن الاشتراكية تعني الإلحاد، هكذا تم تشويه الإسلام من قبل الغوغائيين الغربيين والسعوديين، وأُرسل إلى القتال ضد التقدم وضد تسوية عادلة لعالم تسوده المساواة، هذه الرواية للدين تدافع عن الامبريالية الغربية دون تحفظ، وعن الرأسمالية المتوحشة، وعن انهيار الابداع الفكري للدول التي تم تسويقها إليها، وعلى رأسها أندونيسيا، ففي أندونيسيا على سبيل المثال، عمل الغرب على نشر الفساد، ونقص الخدمات العامة، وساهم في ارتكاب المجازر ضد الأندونيسيين أنفسهم، بداية، ومن ثم ضد سكان تيمور الشرقية، وضد شعوب البابوس، رجال ونساء وأطفال سقطوا ضحايا إجرامه، الغرب ساهم مباشرة في ارتكاب هذه المجازر المروّعة، وساعد على نشر الإرهاب والمذهب الوهابي في ربوع أندونيسيا، في حين تتكدس المساجد والجوامع باتباع الوهابية، ويمارسون الطقوس الدينية دون أي تفكير عميق، وعليه تم توظيف الوهابية من أجل الشركات النفطية والبنوك في لندن ونيويورك، وباتت تعمل من أجل الحكام والنخبة في الدول الزبونة.
في أندونيسيا، عقب الانقلاب العسكري الذي وقع عام 1965 بدعم من الغرب، وآل إلى تدمير الحزب الشيوعي الأندونيسي، وحمل إلى السلطة نظاماً متطرفاً مقرباً من الغرب، ترّدت الأوضاع بسرعة مذهلة، وغدا سوهارتو على رأس السلطة، واستخدم كل الأديان بإحكام، وعمل على حظر كل الأحزاب اليسارية التي كانت ذات أشكال تقدمية وفكرية وفنية، وسرعان ما تحولت أندونيسيا إلى أحد أكبر البلدان الدينية في العالم، وفيها ارتكبت إبادة جماعية ذهب ضحيتها على الأقل مليون شخص، واعتبرت من أكثر المجازر شناعة في القرن العشرين، حيث حرك الديكتاتور سوهارتو “الكرت” الإسلامي لتحقيق أهداف ومكاسب سياسية، ثمة مثال بسيط على التعاون بين الديكتاتورية والإسلام الراديكالي: بعد رحيل سوهارتو عن السلطة، استمر تأثير الدين، حيث عملت السعودية والوهابية برعاية الغرب على القيام بدور كبير في ترسيخ التطرف في هذا البلد لدرجة بات فيها المذهب الوهابي- الغربي أكثر قوة، وباتت البلاد تحت سيطرة كبرى الشركات متعددة القوميات، والنخب المحلية الفاسدة، الأديان، والنظام الفاشي الأندونيسي، والامبريالية الغربية يتقدمون ولكن إلى أين؟.. ربما نحو الانهيار الكلي للدولة الأندونيسية، نحو البؤس عندما سيكون كل شيء قد استُغل من قبل التطرف والغرب، كانت تمضي الوهابية يداً بيد مع الامبرياليين، والمحتالين اللصوص البريطانيين حتى اكتشف السعوديون حقول البترول الواسعة، وكميات هائلة تغطي احتياجاتهم، وتفسيرهم الغريب للإسلام المستوحى والمدعوم من قبل البريطانيين، أندونيسيا ودول أخرى هم ضحايا المذهب الوهابي.
لقد تحوّلت أندونيسيا من بلد علماني وتقدمي في عهد حكومة الرئيس سوكارنو إلى بلد وهابي متدهور تحت هيمنة الإسلام الراديكالي نتيجة الإذعان غير المشروط للوهابية، والقبول الأعمى للنظام الرأسمالي والامبريالية الغربية، أما الإبداع والشعبوية الفكرية فقد تم إقصاؤهما كلياً، أندونيسيا التي تعد رابع بلد عالمياً من حيث عدد السكان، لم يعد فيها علماء، ولا مهندسون، ولا فلاسفة، أو فنانون على الصعيد العالمي، اقتصادها يتغذى على نهب الموارد الطبيعية من مناطقها الواسعة، حجم دمار البيئة والثقافة والحضارة كارثي بكل معنى الكلمة، بلد جُرّد من كل ثرواته، ومن هويته، وثقافته، ومن مستقبله، وباتت الأديان تؤدي فيه الدور الرئيس، ولم يبق شيء للأكثرية سوى الفساد والعنف والنهب والوقاحة، مدن بلا مسارح، بلا معارض، بلا دور سينما، بلا فن، بلد بلا مطارات حكومية، مراكز المدن الضخمة التي تركت “للأسواق” باتت الأديان تملأ الفراغ فيها.
في أيار 2018، أثار أعضاء مجموعات إرهابية خارجون عن القانون اضطراباً في أحد السجون، واحتجزوا رهائن، ومن ثم اغتالوا رجال شرطة، وحراساً بطريقة وحشية، بعد سحق التمرد، وقعت عدة تفجيرات إرهابية استهدفت كنائس ومراكز شرطة، ما أسفر عن وقوع عدد كبير من الضحايا، الإرهابيون استخدموا أعضاء من أسرهم، وحتى الأطفال منهم لتحضير وتنفيذ الهجمات، السجناء الأندونيسيون كانوا يقاتلون في سورية مع التنظيمات الإرهابية، وعدد كبير منهم أعادتهم الحكومة السورية إلى ديارهم، ما يذكر بالماضي عندما قاتل عناصر جهاديون أندونيسيون الحكومة المقربة من الاتحاد السوفييتي في أفغانستان، ومن ثم عادوا وقتلوا مئات الأبرياء في عدة مدن أندونيسية، لدرجة بات فيها المتطرفون الأندونيسيون من مشاهير العالم يقودون معارك الغرب في أفغانستان، وسورية، والعراق، وليبيا، وأماكن أخرى.
كان الأمر نفسه سيحصل في سورية لولا وعي وصمود الحكومة والشعب فيها، سورية البلد العلماني والعريق في حضارته تتعرّض لأشرس حرب منذ أكثر من سبعة أعوام، حرب بالوكالة شنتها الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة، فرنسا، وبريطانيا عبر أدواتها الإرهابية في الداخل، واستقدام المرتزقة من كافة أنحاء العالم لمؤازرتهم، فيما تولت تركيا مهمة استقبالهم على أراضيها، وتدريبهم، ومن ثم إرسالهم إلى سورية تسللاً، أما مملكة بني سعود ومشيخة قطر فقد تكفلتا بتمويل هؤلاء المرتزقة والتنظيمات الجهادية الإرهابية، السوريون رأوا ما جرى في ليبيا والعراق، لذلك أرادوا تفاديه، وحماية بلدهم وصونها والدفاع عنها كي لا تقع تحت حكم المتطرفين التكفيريين، وقد نجحوا بذلك، وسحقوا الإرهاب من معظم المناطق التي اجتاحوها بفضل قوة وصمود الجيش، والحكومة، والشعب السوري بالدرجة الأولى، ودعم الأصدقاء والحلفاء في الدرجة الثانية.
هكذا ينشر الوهابيون عقيدتهم وأيديولوجيتهم في كل مكان، حيث يتم تمويل الحياة الاجتماعية، والتربية، وحتى العبادة من قبلهم تخضع لإشرافهم ورقابتهم، وحتى رواية الإسلام التي يتطور فيها التلقيح بمبادئ ومفاهيم الوهابية، هكذا حققت حراسة الأماكن المقدسة وعائدات النفط نفوذاً قوياً وعالمياً لحركة دينية تضم مجموعة متطرفة كانت مهمشة في المحيط الخارجي.
باختصار، الوهابيون، كما عرفهم “حميد ريديسي”، هم الخوارج الجدد، ملة ولدت في القرن الأول من السنة الهجرية، وعرفت بتعصبها وتشددها الديني، ورفضها كل أشكال الاعتراض والانتقاد، وتكفير الأديان والطوائف الأخرى.