طوق الحمامة (3)
د. نضال الصالح
نور، اسم على مسمّى كما يُقال، أي ما يصدق على صاحبه، فالنور يسكنها في غير مكان، ويغمرها من غير مكان، حتى ليحسب مَن يعرفها عن قرب أنها خُلقت من نور، وولدت في النور، وتعيش في النور. وإذا صحّ المثل: “لكلّ امرئ من اسمه نصيب”، فقد كان لها من اسمها النصيب كلّه، لأنّ وجهها طافح بالنور دائماً، وروحها دفّاقة بالنور دائماً، ولسانها، كلّ شيء فيها ومنها، ولأنّها كذلك، بل لأنّ حسن لم يعرفها فيما مضى من اللقاءات سوى كونها كذلك، فقد نقل إليها عن ابن القيم من كتابه “زاد الميعاد” قوله: “لمّا كانت الأسماء قوالب للمعاني ودالّة عليها اقتضت الحكمة أن يكون بينها وبينها ارتباط وتناسب”، فأسرعت في القول له: “تقصد نفسك”، فعلت وجهه ابتسامة طفلة، وقال: “بل أنت يا نور، أنت. أنت نور بحقّ”، ولم يكد يتم قوله: “سُئل رسول الله: هل رأيتَ ربّك؟ قال: نورٌ، أنّى أراه؟”، حتى تضرّج وجهُ نور بنور أشدّ، وحتى وجدت أصابع يمينها، من دون أن تدري كيف حدث ذلك، تمضي إلى شفتيّ حسن ليتوقّف عن الكلام، وحتى أسرعت يمين حسن إلى يمينها، وأحاطت بها، ثمّ أخذت ذؤابات أصابعها الموز في قبلة ارتعش جسد نور كلّه لها، حتى كادت تنسى ما حولها، وحتى أحسّت بأنّ روحها ترفرف في سماء عالية، سماء من نور خالص، لا يدركها سواها.
في كلّ لقاء، بعد ذلك، لم يكن حسن يمد كفّه إلى كفّ نور مصافحاً، بل يأخذه، كفّها، بمطلق شغفه إلى اللقاء، إلى شفتيه، ويروي ظمأ روحه إليها، وعندما كانت نور تستعيد نفسها إلى الأرض بعد رفرفة لروحها في تلك السماء، بل عندما كانت تنتبه إلى العيون الجاحظة نحوهما، كانت تنسل أصابعها من بين أصابع كفّه، ثمّ تمرّرها على شفتيها كأنّها تطفئ لظى يضطرب فيهما، بل في جسدها كلّه، وتردّد في سرّها: “يا نار كوني برداً وسلاماً”، ثم تسارع إلى القول: “لنبدأ العمل”.
العمل، ذلك ما كان هاجس نور وشاغلها فيما بعد تهجيرها وأسرتها من درعا، لم تدع مناسبة تمكّنها من مساعدة أحد من المهجّرين والنازحين من القرى والبلدات والأحياء في غير مكان من سورية إلا وكانت تفعل على الرغم من أنّ ذلك كان يلتهم وقتها كلّه، ولا يدع فرصة لها لحضور محاضراتها في الجامعة، ومن أنّه أنحلَ علاماتها في الامتحانات التي قدّمتها في السنتين الفائتتين خاصة.
العمل، في غير جهة وفي غير مكان أيضاً، هو ما كان من شأن حسن الذي أصرّ على أن يكون مع نور في كلّ مكان تذهب إليه، إلى هذه الجمعية الخيرية أو تلك، أو إلى هذا المركز من مراكز الإيواء أو ذاك، وباستثناءات قليلة لم يكن أيّ منهما يعود إلى منزله بأيّ من وسائل النقل، بل مشياً، ليمضيا معاً أكثر ما يمكن من الوقت، حتى كان ذلك العصر من ذلك اليوم الذي……. (يتبع).