المظاهر.. داء اجتماعي يعتمد على الإيحاءات النفسية المخادعة.. والأحكام المسبقة تضلل الناس!
مع أنه كان يجهل العديد من خصائص وصفات الجهاز الذي اشتراه مؤخراً بمبلغ يفوق خمسة أضعاف راتبه، ولا يحتاج منها، كما كان يقول، إلا للاتصال والتقاط بعض الصور، لكنه أيضاً لم يكن يريد أن يبدو أقل من سواه من المعارف، فالجهاز الذي اشتراه مؤخراً يفوق بالشكل والجمال والسعر معظم الأجهزة التي يحملها أصدقاؤه ومعارفه، وسيكون مطمئن البال في المرات المقبلة التي يرى أياً منهم، خاصة حين يضعون بعناية وحرص هواتفهم المحمولة المميزة على الطاولة إلى جوار علب السجائر الفاخرة، و”بورتوكليهات” نفيسة لمفاتيح السيارات التي يركبونها، ولكن من المفارقات الغريبة في المجتمع أن معظم الأشخاص الذين يقومون بمثل تلك التصرفات ينجحون في خداع الناس بالمظاهر التي قد تختفي غالباً خلف لباس أنيق، أو جهاز موبايل حديث، وعلبة سجائر فخمة مقترنة بالفوقية في الحديث أو التصرفات، فمعظم هؤلاء يكونون من محدثي النعمة الذين لا يختلف وضعهم المادي كثيراً عن الآخرين إلا بالشكل والمظاهر، والمضحك أن أشخاصاً كهؤلاء غالباً ما يكونون من فئة الناس الذين يدققون بالأسعار، ويفاصلون أكثر من غيرهم، متناسين أن لكل تصرف ضريبته، كالمثل الشعبي الذي يقول: “على قد بساطك مد رجليك”.
داء اجتماعي
وفي مجتمع تتأثر فيه نظرة الأفراد إلى نظرائهم بالشكليات والمظاهر، باتت المظاهر والأحكام المسبقة داء اجتماعياً يعتمد على الإيحاءات النفسية المخادعة التي يتأثر بها الكثيرون، ويتصرفون مع بعضهم بالاعتماد عليها، فيسلبون الجوهر حقه، ويكتفون بالمعرفة السطحية التي تفرز المجتمع فرزاً مشوّهاً.. تعتقد سهى، الطالبة في كلية الاقتصاد، بأن المظهر الخارجي يقدم إلى حد ما نظرة أولية عن الشخص، وتستشهد برأيها هذا من طلاب في الجامعة، وطريقة ارتدائهم للملابس، أو الهيئة والمظهر الذي يبدون عليه، وأثناء حديثها تشير إلى أحد الطلاب الذي يرتدي نظارة سميكة، ويتمتع بشعر كثيف، وتقول: ربما يكون ذلك الشاب طالباً للفلسفة، أو الفنون الجميلة، فهيئته العامة، وشعره “المنكوش”، وحركاته توحي بذلك، تماماً مثلما نعتقد أن من يصفف شعره بطريقة كلاسيكية، ويرتدي نظارات طبية، ويمسك بالكتب دائماً، ويتمتع بشخصية خجولة وهادئة هو طالب حقوق، أو طالب طب، أو ربما هندسة، ولكن بالتأكيد الحقيقة قد تكون مخالفة لكل هذه التوقعات، لذلك يتوجب علينا الحذر دائماً قبل الحكم على الآخرين، بدوره يرى موسى، طالب كلية العلوم الطبيعية، أن الحكم على الآخرين بمعرفة سطحية أمر فيه الكثير من الظلم بحقهم، وبحق أنفسنا، إذ يحدث كثيراً أن نتقابل مع أشخاص لا نعرفهم، فنعتقد للوهلة الأولى أنهم متكبرون ومتعجرفون، ولكن عندما نقترب منهم ونتعرف إليهم عن قرب، نجدهم أشخاصاً طيبين يتمتعون بطباع حميدة لم نلاحظها في البداية لسرعة حكمنا عليهم، ويضيف: لا يمكنني أن أحكم على الآخر بمجرد النظرة، أو من خلال تصرف فردي بدر منه، لأن المظاهر خادعة، ومعدن الناس لا يمكن الكشف عنه من النظرة الأولى، أو من خلال معرفة لم تستغرق سوى أيام معدودة، ويشير إلى أن البعض يحكم على الآخرين من خلال آراء وتعليقات أصدقائهم، لا من خلال قناعة شخصية، وهذا أيضاً فيه من الندم ما يشعر الإنسان بالظلم.
نتائج مفاجئة
ومن الملفت أن الانطباعات المسبقة عن الآخرين، والتسرع في الحكم عليهم قد يؤديان لنتائج سلبية غير متوقعة أو مفاجئة في بعض الأحيان، وكثيرة هي الأمثلة والقصص التي يمكن الحديث عنها في هذا الجانب، كقصة عبد المنعم، وهو معلم في إحدى مدارس الثانوية العامة، وكان يتحدث عن طالب من طلابه اعتقد دائماً أنه طالب مقصر وكسول، ولم يكن يتردد في توبيخه دائماً، أو الحديث عن فشله حتى كانت نتائج الامتحانات المفاجئة التي أثبتت تفوق الطالب، ونظرة المدرّس الخاطئة، فالشاب كان يدرس ويجتهد بصمت دون أي اهتمام لنظرة الآخرين وآرائهم المسبقة عن رأيهم في قدرته على التفوق من عدمها، أما أبو سومر، وهو سائق تكسي، فيتحدث عن قصة مشابهة خدع من خلالها بالمظاهر من قبل ثلاثة أطفال، هم ولدان وفتاة، حين تمكنوا من إقناعه بأنهم يتامى وفقراء ولا يمتلكون أجرة التوصيلة لمنزلهم الذي ضلوا العودة عنه، ويكمل: تعاطفت كثيراً مع الأطفال ومظهرهم المثير للشفقة، واعتقدت أنها مسألة إنسانية، وفيها من الخير الكثير، لكن صدمتي كانت كبيرة حين شاهدت هؤلاء الأطفال بلباس وهيئة مختلفة تماماً في أحد المطاعم برفقة والدتهم التي ادعوا وفاتها، ويقول: لولا تعاملي بإنسانية، وحكمي المتسرع على هؤلاء الأطفال من خلال ملابسهم وحديثهم لما مرت عليّ تلك الحيلة.
عوامل نفسية وبيولوجية
يؤكد الباحثون والمختصون في مجال الدراسات النفسية أن هناك عوامل مختلفة تؤثر في تكوين الانطباعات المبدئية لدينا عن الآخر، فالإنسان يتألف من وحدة مركبة تتداخل في تشكيلها مجموعة من العوامل النفسية، والبيولوجية، والاجتماعية، وبشكل عام هناك بعض الأمور التي تحدد حكمنا على الأشخاص من النظرة الأولى، أو اللقاء الأول، كالشكل الخارجي، وملامح الوجه، ونظرات العيون، والتصرفات، والوضع المادي والاجتماعي، إلى جانب دور طبيعة الصوت ودرجته، وطريقة اللبس التي تشير إلى شخصية الإنسان واهتماماته، وتترك انطباعاً عن علاقته وارتباطه بالترتيب والأناقة، فيكون سبباً بالشعور بأنه قريب إليك، أو بعيد، لكن التأثر بهذه الشكليات والاعتماد عليها في تكوين حكم مسبق هو الخطأ الشائع الذي يقع به معظم أفراد المجتمع، وهو نتيجة تكوين اجتماعي هش، أو سلوكيات بات متعارفاً عليها في المجتمع، كأن نرى مثلاً أن صاحب الهندام الأنيق هو محط اهتمام وترحيب في المجتمع بعكس صاحب اللباس المتواضع، لذا فإن تكرار مثل هذه الصور في المجتمع يجعلنا باللاشعور نتبناها في حال ضعف الثقافة، فتكون طريقة خاطئة للحكم على الآخرين تترتب عليها نتائج اجتماعية خطيرة وسلبية في المجتمع.
أحكام ظالمة
تؤكد الدراسات أن معظم الأشخاص الذين يتبنون الأحكام المسبقة هم أفراد عجولون ومتسرعون ومتأثرون بالمظاهر، أو أحاديث الناس، وتكون نتيجة هذه العجلة من قبلهم تقديم أحكام ظالمة تفتقر إلى الأدلة القاطعة، وتعتمد على كلام الآخرين مما يدخل في باب الغيبة والبهتان، وهي تدل أيضاً على حماقة مصدرها، أو خبثه وقصده السوء فيمن حكم عليه، وتضيف مؤكدة: إن الحكم على أي شخص من النظرة الأولى، أو بمجرد مقابلة عابرة خطأ يجب علينا تجنبه، والدليل أننا نبني في بعض الأحيان صوراً مثالية لشخص ما، وعند أول امتحان له نصاب بصدمة، وهذه النتيجة الطبيعية للحكم المتسرع، لذا تكون الوسيلة الوحيدة لتجنب دفع ضريبة الحكم على الآخر من النظرة الأولى هي التروي، وإعطاء الوقت دائماً، واختبار الأشخاص في مواقف متعددة، وترى الدراسات أن الحكم السليم على الآخرين يمكن الاعتماد عليه بعد فترة طويلة من الصداقة أو المعرفة، تتخللها مواقف مختلفة يمكن من خلالها الحكم على أي شخص بنسبة نهائية.
محمد محمود