كيف يُقاوم الأدب؟
الحياة لا تتوقف، والتغيير هو القانون المطلق الذي يحكم حركتها، ومهما تشابهت اللحظات تحتفظ كل منها بخصوصيتها واختلافها، إنك لا تنزل النهر الواحد في اليوم مرتين، هذا التغيير هو الذي يحكم إعادة الكتابة، أو لنقل الكتابة من جديد عن موضوع كتبت فيه كل الشعوب والحضارات والمفكرين والمبدعين: كيف يقاوم الأدب؟
لقد ربط الكثيرون بين المقاومة والأدب الواقعي، والملتزم أو المناضل أو أدب القضية وغيرها من المصطلحات التي تحدد للأدب عدداً خارجياً (أي خارجه) ينبغي أن يواجهه ويعد لهزيمته، ولاشك أن الشعوب في حالة الاحتلال الخارجي أو القهر الداخلي، تكون في حاجة إلى أدب وفن ينيران الطريق لمواجهة هذا الاحتلال، وهنا يأتي المعنى المباشر لمصطلح (أدب المقاومة)، ويعرف تاريخ الأدب نماذج راقية لهذا الأدب سواء في تأديتها رسالتها المقاومة أو في إخلاصها لماهيتها باعتبارها أدباً وليس مجرد خطابة أو شعارات.. وماتزال البشرية تعرف ذلك، وسوف تعرفه، وعلينا أن ندعو إليه وندعمه، فنحن بالتأكيد في أمسّ الحاجة إليه في ظل ظروف الاحتلال الذي يعيشه العراق وفلسطين، والمؤامرة الكبرى ضد سورية وتدمير ليبيا الدولة، وحرق اليمن السعيد، والقهر في كل أوطاننا، غير أن ما يشهده عالمنا من تحولات في أنماط الاحتلال والقهر بفعل هيمنة القطب الأمريكي الواحد، وبفعل إمكانات التطور التكنولوجي التي تستخدم في التفنن في أشكال الاحتلال وأشكال القهر، يدعونا إلى النظر المتعمق لإعادة النظر في مفهوم أدب المقاومة.
إن الاحتلال الأمريكي والهيمنة، وإن عاد إلى النمط التقليدي من الاحتلال، ذلك الاحتلال العسكري المباشر للأرض والثروات والبشر، فإنه لا يكتفي بذلك، وإنما يسعى إلى احتلال المنطقة كلها بشكل مباشر، وذلك بفرض وتسييد النموذج الثقافي والقيمي الذي يحتاجه لخدمة مصالحه وتأمينها في الحاضر والمستقبل، وهذا الغرض يتم كما تسعى الولايات المتحدة الأمريكية باحتلال مناهج التعليم والإعلام والثقافة وأنماط الترفيه والتدين، وكل شيء، بالإضافة طبعاً إلى احتكار الأسواق وهي كلها احتلالات تتم عن بعد، أي عبر وسائل التكنولوجيا الحديثة والسريعة، وفي هذا السياق فإن بعض الأنظمة تساهم في تحقيق هذه الاحتلالات، إما نتيجة للتبعية والعمالة، أو نتيجة للضعف بسبب عدم التحامها مع شعوبها وممارسة القمع عليها، إن هذا التوسع في مفهوم الاحتلال، وكذلك التعقيد والتركيب، يقتضي الدرجة نفسها أو أكثر من التعقيد والتركيب في مفهوم المقاومة، بحيث يصبح كل فعل على أي مستوى من المستويات، وفي أي مجال من مجالات الحياة، يعرقل تحقيق هذا المفهوم للاحتلال، فعلاً من أفعال المقاومة، وهذا المفهوم الجديد للمقاومة يشمل بكل تأكيد الأدب والفن، بحيث يمكن القول: إن كل نص أو علم فني يمثل نقيضاً أو مخالفة لمفهوم الاحتلال الأمريكي هو شكل من أشكال المقاومة، فأن يصر الشاعر أو الروائي أو المسرحي أو الموسيقي… الخ على حقه في أن يفكر كما يشاء ويكتب كما يشاء دون فرض أو قهر أو تنميط، فهذا في حد ذاته شكل من أشكال المقاومة، لأن الاحتلال لا يريد ذلك، وأياً كان موضوع الإبداع، عن المرأة أو الطبيعة أو الذات، على هذا الأساس أستطيع أن أبالغ قليلاً لأقول إن فعل الكتاب أو الإبداع ذاته، ما لم يكن موجهاً للدعاية للاحتلال والقهر، هو فعل مقاومة، لأن استخدام الوسائل المعتادة (اللغة مثلاً) في إنجاز عمل لم يكن موجوداً من قبل، يضيف رصيداً جديداً للحياة والمستقبل، ولنتخيل حياة خالية من الكتابة الجديدة، لاشك في أنها ستكون حياة جافة ونابضة، وإذا استمرت بدون كتابة جديدة، فلابد أنها ستنقرض، مثلما انقرضت حياة الهنود الحمر، لأن مثقفيهم وكتابهم فقدوا القدرة على إنتاج المعنى الجديد، فقدوا القدرة على التواصل مع شعبهم، كتابة أو شفاهة، فخسروا المعركة وانقرضت الحياة، كان لابد من هذا المدخل لأن حالات الإحباط واليأس التي أصابت المبدعين والمثقفين العرب الشرفاء، تكاثرت ووصلت ببعضهم إلى حد الصمت والكف عن الإبداع إحساساً بعدم جدواه، كان هذا حال الكثيرين قبل الانتفاضة الفلسطينية السابقة التي أعادت الروح والأمل لدى معظم هؤلاء، لكنهم سرعان ما اصطدموا باحتلال العراق والضربات القاسية ضد المقاومة الفلسطينية البطلة.
لقد شهدت السنوات الثلاث السابقة على احتلال بغداد من قبل الأمريكان، موجة عارمة من أدب المقاومة بالمعنى الاصطلاحي السابق ذكره، إذ امتلأت صفحات الجرائد والمجلات ومواقع الإنترنت بقصائد التمجيد للمقاومة والاستشهاد، والأمل في حياة جديدة أفضل وأجمل، وعرفنا تحولات في التوجهات الفنية لأجيال من الشعراء وغيرهم من المبدعين، كانت تلوذ بذاتها التي تحولت إلى حدود الجسد، واكتشفت (الانتفاضة) أن هناك عالماً خارج هذا الجسد، وأن ثمة إمكانية لفعل إنساني منجز، تبدو اللحظة الراهنة، بعد احتلال بغداد، قاتمة وقاسية رغم استمرار المقاومة في فلسطين، وتصاعد المقاومة في العراق، لم يفق المبدعون بعد من هذه الصدمة، وتبدو المخاطر مهددة لإبداعهم بالتوقف أو العودة إلى ما قبل الانتفاضة والمقاومة، ربما تكون تحولات، وانتقادات أحد الشعراء الفلسطينيين النموذج الأعلى للشاعر العربي المعاصر، أنموذجاً لما قصدت من شعر المقاومة البسيط، إلى درجة أعلى منه، إلى حصار بيروت والخروج منها، ثم أوسلو حيث إعادة بناء الماضي حصناً ثم قصائد قليلة من الانتفاضة ثم صمت، في كل هذه التحولات، وطبقاً للفهم الجديد لأدب المقاومة، اعتبرها ممارسة لمقاومة الاحتلال وطمس الهوية وسرقة الماضي وحق الإنسان في أن يكون إنساناً، وليست حالة هذا الشاعر الفلسطيني استثنائية في الأدب العربي المعاصر، فثمة توجهات فنية متباينة سواء في الشعر أم في الرواية أم المسرح أم القصة القصيرة، وثمة انتقالات أو تحولات يمر بها كل مبدع من مختلف الأجيال طبقاً لتطورات تجربته الإبداعية والظروف التي يعمل في إطارها.
حينما يحاول بعض الكتّاب اسكتناه ذاكرة التاريخ، وحينما يحاول آخرون كتابة السيرة الذاتية في أعماقها السحيقة، تحاول المرأة أن تكتب بلغتها وكيانها، وحينما يحاول الجيل الجديد أن يكتب بديلاً عن الحياة التي لا يملكها، فكل هذه المحاولات هي محاولات لكتابة مقاومة، تقاوم كل ما يوقف نمو الحياة وازدهارها، وعلينا في ظل التطورات الراهنة أن نحتفي بها ونعينها في مواجهة قوة الطمس والاحتلالات الأمريكية للوطن العربي.
د.رحيم هادي الشمخي