الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

التكيف

محمد راتب الحلاق

يقولون في علم النفس: إن من علامات ذكاء الإنسان قدرته على التكيف، وعلى التلاؤم مع ما يستجد حوله من ظروف. وأقول: نعم، بل إن التكيف بعد من أبعاد إنسانية الإنسان، يساعده في الخروج من كثير من المشكلات والمآزق التي تواجهه. لكن التكيف قد ﻻ يكون محمودا دائما، حين يتحول إلى سلوك مستقر في مواجهة الواقع، بعد أن كان قد تم اللجوء إليه لمواجهة حالة استثنائية طارئة؛ فليس من الحياة في شيء تحول التعايش مع القهر والظلم إلى نمط حياة، ﻷن التكيف في هذه الحالة يفقد الحياة بعدها الإنساني ومعناها الحقيقي، المتمثل بالحرية، وبامتلاك زمام المبادرة لتغيير الظروف، وتجاوز الحالات الطارئة، ولجعل الحياة أكثر جماﻻ وعدﻻ، وأقل قبحا وظلما.

ثم إن التكيف مع القهر والفقر والحرمان يغدو عبئاً مضافاً، وشرطاً ﻻ إنسانياً، يجعلنا نفرح بزوال أشياء ما كان من حقها أن توجد أصلاً، أو بحضور أشياء ما كان من حقها أن تغيب؛ كالفرح بوصول التيار الكهربائي مثلاً، الذي ما كان ينبغي له أن ينقطع. ضربت التيار الكهربائي مثلاً وللقارئ أن يفكر بأشياء وأشياء ينبغي أن تحضر وما كان ينبغي لها أن تغيب، وأشياء وأشياء ينبغي أن تزول وما كان ينبغي لها أن تحضر.

وأخطر ما في التكيف من هذا النمط غير المحمود يكمن في التعود على الحرمان والقلة، وعلى الشروط غير المناسبة للحياة الإنسانية الكريمة التي يفرضها الأقوياء على المستضعفين من المواطنين، وعلى الدراويش من عباد الله، لأن هذا الطراز من التكيف يجعلنا نعيش في كهف من الضلالات يشبه كهف أفلاطون الشهير، ويقدم لنا، أحيانا، ما يشبه الحياة على أنه الحياة. ويجعلنا ننسى الحياة الحقيقية، بل يحجب عنا معرفتها، فنظن أن ما نحن عليه، وفيه، هو ما ينبغي أن يكون، وليس أمقت عندي ممن يمتدح قدرة شخص ما، أو جماعة ما، على التكيف والتعايش مع الظروف القاسية، بدل أن يساعد في تجاوز تلك الظروف، أو على اﻷقل بدل التوعية بخطورتها على إنسانية الإنسان وكرامته، والدعوة إلى ضرورة التخلص منها..

التكيف المحمود يعني التلاؤم المؤقت، على مضض، مع الواقع غير المناسب، لتخفيف الأذى والحد من الضرر، ريثما يتم تغيير هذا الواقع (وتكييفه) ليتناسب مع الحاجات الإنسانية الكريمة، بعيداً عن تسلط المتسلطين، وفساد الفاسدين، وجشع الجشعين.. ولا يعني، ولا يجوز أن يعني، الرضا بالظلم والحرمان، أو بتفرعن الفراعنة والأقوياء من البشر، الذين لم يجدوا من يردهم أو يردعهم وينتقد تصرفاتهم. والتكيف المحمود هو الذي يحسن فيه الفرد التعامل مع الظروف الطارئة والمفاجئة، ومع الظروف القاهرة، التي ليس من الممكن تغييرها بالوسائل المتاحة، مع استمرار هذا الفرد في البحث عن الوسائل التي تساعده في الانتصار على قصوره الذاتي، وتجاوز تقصيره وتقاعسه وإحجامه عن محاولة التغيير بشتى الوسائل.

ما أردت قوله إلى الآن: إن مواجهة الظروف غير المناسبة، وهي ظروف مؤقتة غالباً، تكون بالتكيف معها أولاً، للحد من ضررها ما أمكن، ثم محاولة تكييفها والانتصار عليها، وجعلها تتناسب مع الحياة الإنسانية الكريمة، فتكييف الظروف أنبل من التكيف معها، وتغيير الشروط اللاإنسانية التي يفرضها المستفيدون والأقوياء أولى من التكيف معها.

ratebalhallak4@gmail.com