ثقافةصحيفة البعث

“حياة معلقة”.. ما بين موت وآخر

 

 في إشارة منه إلى الحصار الذي يعانيه قطاع غزة، اعترف صاحب الرواية أنه لا يمتلك نسخة من روايته “حياة معلقة” التي تمت طباعتها خارج القطاع.

 ولن تخرج أجواء العمل بعيداً عن طبيعة الحياة في المكان وإن أتت بغير اتجاه، إذ وبينما أنت تقرأ أحداث فصولها ستتوقف كثيراً تلتقط أنفاسك وتلتقط صوراً للحياة هناك من جانب آخر، جانب حياتي لا يشكل إغراء تلاحقه عادة أخبار الصحف ونشرات التلفاز حتى أنه ليس لديها الفرصة للمرور عبر شريط أحمر أو أزرق أسفل الشاشة.

الجانب الآخر

هي تفاصيل يوميات الناس في المدينة الفلسطينية بكل ما تحمله من تطلعات وخيبات رصدها الكاتب من خلال أحدى عشر فصلاً حمل كل منها عنوانه الخاص، وعبر لغة سردية أقرب إلى لغة الصحافة منها إلى اللغة الأدبية التي تعد سمة كل كاتب، قدم مواضيعه تلك التي تشكل محور اهتمام شعب يعيش تحت الحصار ويعمل على استعادة سلطته على الأرض، هكذا يعرض لحياة عددٍ من العائلات الفلسطينية ملقياً الضوء على جانبها الإنساني والاجتماعي، وبعيداً عن التركيز على البطولات وقصص العمليات الفدائية يسرد حكايات لأشخاص عاديين سلك كل منهم دربه الخاص بحثاً عن حياة يرغب بها، لا تستقيم لدى البعض إن لم تتمحور حول مقاومة العدو والوقوف في وجهه، بينما لا يطلب آخرون سوى العيش والعيش فقط،  إذ ما معنى أن يحمل المرء “صفة الشهيد وإن قضى برصاص العدو أو سواه” وقد رحل دون أن يحقق لذاته معنى الحياة التي أرادها.

يستهل صاحب العمل روايته بالموت المفاجئ عنواناً للفصل الأول فيها، حيث “نعيم” بطلاً لها، كان له أن يأتي إلى الدنيا مع بداية الاحتلال، وحيث لم يتمكن الأهل من المغادرة كغيرهم من العائلات التي تركت بيوتها معولة على عودة لن تطول، ليبقى ويكبر ويتزوج كسواه ممن لم يتسن لهم الخروج سواء بإرادتهم أو أن الظروف أرغمتهم على البقاء بطريقة أو بأخرى، يكبر ويتزوج “آمنة” التي أنجبت له من الأبناء أربعة ذهب كل منهم في طريق.

“سليم” الابن البكر الذي ترك حبيبته “يافا” وهاجر طلباً للعلم ثم عاد بعد استشهاد والده، يعود ويبقى بعد أن فقد الحبيبتين والمنزل الذي لم يهدم بالآلة الإسرائيلية بل بالجرافات الفلسطينية، و”سالم” القابع خلف جدران المعتقل منذ أن وعى على الدنيا حتى “يكاد يظن أن باب الزنزانة قد صدأ ولم يعد يفتح”، ثم ابنته الكبرى التي تزوجت ورحلت إلى السعودية مع زوجها، ولم يتبق لديه سوى الصغرى سمر “الشقية التي روضتها الوحدة وخففت من شقاوتها، الطفلة التي وجدت نفسها وحيدة مع الرجل الذي بدأ يخطو نحو الكهولة، تستمع لحكاياته كل ليلة حين يعود من المطبعة وحزنه المخبأ على القتلى الذين يقوم بعمل الصور والبوسترات لهم، أو عن حنينه إلى آمنة أجمل بنت في المخيم ولحظة لقائه بها في طريق عودتها من المدرسة”، وفي كل مرة يطبع فيها صورة شهيد أو بوستراً لضحية من ضحايا الاحتلال كان يكتشف وجهاً جديداً لبشاعة الموت وقسوة الرحيل من جديد، ويشكو لابنته التي كانت مستمعه الحقيقي الوحيد، وهو ينقل لها ماهية الوجع الذي كان يحسه، فالناس لا تفهم أنه يمسك الجمرات بيده “يجلس قبالة الخزانة ويفتح أدراجها منقباً في حياة الذين رحلوا، تصلح خزانة نعيم تلك أن تكون كتاب حياة المخيم في العقدين والنصف الماضيين” من حياة “شادي” وأمه التي كانت تصر على الذهاب كل يوم لتضع حقيبته على المقعد الذي اعتاد الجلوس عليه، ثم تعود تجر أحزانها في شوارع المخيم، إلى “نصر” ابن أخته الذي يعرف أنه سيصنع له يوماً ما بوستراً خاصاً به “سيخيب ظنه فيما بعد إذ سيرحل هو في نهاية الفصل مغادراً الحكاية ويغدو مثل أولئك الذين يسكنون أدراج خزانته سيرحل ذات صباح باكر وهو يحاول فتح باب مطبعته برصاصة طائشة من سلاح في يد جندي إسرائيلي.

حيوات ودلالات

ستخبرنا فصول الرواية تباعاً حكايات لأشخاص آخرين، تتباعد أحياناً ثم تعود لتتقاطع أحياناً أخرى، مثل “يافا” التي انتظرت زواجاً لم يحدث يتوج حبها لسليم، لتخوض تجربتها الفاشلة مع نادر، ثم تتحول يائسة إلى العمل في مجال حقوق الإنسان.

وقصة خميس وثروته التي جمعها من تجارة الأنفاق، والبناء الضخم الذي بناه فوق أنقاض بيوت هدمتها جرافات حماس.

ثم هناك “صبحي” ونضاله والمبادئ التي بات عليه أن يدوسها بقدميه مجاراة لمصالحه مع الحكومة الجديدة كي يخوض النضال من جانب آخر قوامه التجارة في الدين، و”نصر” المعتنق المقاومة والنضال ديناً له ناسياً حياته الخاصة، والفتاة الإيطالية “ناتالي” التي انتهت قصتها مع “سليم” لتتجه إلى العمل في الصحافة وتغطية أخبار فلسطين وتلتقي نعيم ذات يوم. إلى “ياسر” وموهبة التصوير واللغة الإنكليزية الجيدة وقد فتحت له الباب ليصبح صاحب وكالة إخبارية تتسع دائرة العمل فيها وتزدهر كلما تفاقمت الأوضاع في المكان.

وجهات نظر

هكذا حملت كل واحدة من هذه الحيوات وسواها مغزى وإشارة أراد الكاتب أن يرسلها إلى القارئ بطريقته، لعل أشدها وضوحاً تلك التي حملها الفصل الأول والأخير آل مصير بطليهما إلى الاستشهاد وإن اختلفت الطريقة، نعيم وقد رحل، رصاصة أنهت حياته بينما كان يهّم بفتح باب المطبعة ليعلن شهيداً من أبناء المقاومة، بينما لا يراه ابنه سوى ضحية لرصاصة طائشة، يتجه بالحديث إلى ابن عمته نصر فيقول:

“والدي لم يكن بطلاً، كان ضحية العدو، كل الشعب ضحية العدو، أنا وأنت وهي وهو وهم كلنا ضحايا، ولكني أقصد ضحية بالمعنى الحرفي، لا يوجد معنى حرفي ومعنى فلسفي، وأنا لا يهمني هذا الفرق حتى لو وجد، الشهداء ليسوا ضحايا، بل هم أبطال قدموا حياتهم ثمناً للحرية وثمناً لحياتنا نحن، ونحن يجب أن نكافئهم، ما قصدته أنه لم يكن يقوم بعمل بطولي حين جاءته الرصاصة من القناص ومات”. والحاج خليل الذي انتهى إلى الاستشهاد في الفصل الأخير بعد غيبوبة دخلها لفترة طويلة إثر ضربة قوية بهراوة من يد شرطي فلسطيني.

إشارات ودلالات حملتها رواية عاطف أبو سيف، يمكن أن يستشفها البعض وقد لا يحدث الأمر فتمر مروراً عادياً أمام أعين البعض الآخر، يرتبط الأمر بالقدرة على التعاطف مع حكاية أو أخرى والتبحر في خلفياتها وما خفي بين سطورها، أمر قد تعيقه كثرة الأحداث وزخم التفاصيل الصغيرة التي سردها الراوي، وتكرار استخدامه لبعض العبارات التي قد تسبب الملل وتمنع التواصل الحقيقي والتام مع العمل، وتدفع للتساؤل عن مقومات على العمل الأدبي أن يحملها لتؤهله أن يكون مرشحاً للدخول في عداد روايات الجوائز، أهي مؤهلاتها الأدبية أم أن الهوية تقف خلف الأمر أو أنها أمور مخفية لا نعلم عنها، وروايتنا هنا التي حملت اسم “حياة معلقة” وترشحت لجائزة البوكر في العام 2014، أبقت حياة شخوصها معلقة في الهواء جسدتها بوضوح في سليم الابن المهاجر والبطل الرئيس للرواية.

“عاطف أبو سيف” كاتب فلسطيني ولد في مخيم جباليا/ غزة، عام 1973 لعائلة قدمت من مدينة يافا، صدر له أربع روايات هي “ظلال الذاكرة- حكاية ليلة سامر- كرة الثلج- حصرم الجنة” إلى جانب مجموعتين قصصيتين، وثلاث مسرحيات.

 

بشرى الحكيم