فصول السنة اليابانية «الهايكو والتانكو»
الهايكو في منبته وما يشي به من ثقافة ربما اختصت حيزاً جغرافياً بعينه كاليابان مثلاً، أصبح اليوم «شكلاً كتابياً» يبحث في دورة الإبداع عن أسباب تحققه في الفضاء العربي، على مستوى البلاغة الداخلية التي يتوسلها أو لنقل الكثافة التي يعول عليها المبدع في أن يبث رسالة ما من خلالها، وفي هذا الصدد كان كتاب السويدي «توماس ترانس مور» الذي بحث طويلاً في «الهايكو» كجذور ونشأة ومستويات فنية ونماذج متعددة في أشكال الصوغ التعبيري ليشتق دلالتها الثقافية، لا ليعللها فحسب ولعل الدكتور الناقد شاكر مطلق الموسوم بـ فصول السنة اليابانية قد ذهب في ذات الاتجاه أي في البحث عن أصول «الهايكو» وأنماطه التعبيرية من مثل «التانكا»، ونلاحظ في هذا السياق أيضاً ومن خلال مدخله إلى الشعر الياباني وخصوصية علاقته بالشعر الغنائي «lyrik» أن د. –مطلق- قد عُني بتتبع ليس السياق المعرفي لأصل «الهايكو» الياباني فقط، وبتقعيد ذلك الفن الذي استنبتت له في فضائنا العربي فضاءات محايثة بل ذهب أكثر من ذلك، أي إلى مرتكزات الحضارة الأوروبية التي قامت على دعائم ثلاث، منها التراث الشعبي من جرماني –كلتي- روماني وسلافي، فضلاً عن التراث القديم من فكر إغريقي وقانون روماني ارتباط بجذر ديني هو المسيحية، ليدلف إلى الشعر الياباني من خلال ما ذهب إليه باستناد الحضارة اليابانية على دعائمها الثلاث وهي شنن تون، والكونفوشية، والبوذية، لكنه في الكونفوشية لاحظ فلسفة هي الطاوية.
والطاوية كما هو معلوم قد اغتنت بأفكار لا وتسو العميقة على مستواها العرفاني واللغوي، لكن «الهايكو» والذي تشبّع بخصائص اللغة اليابانية القديمة، أي تلك التي لم تعرف إلا الحروف الصائتة القصيرة والمقاطع المطلقة وليس فيها تشديد على الحروف كما يذهب د. مطلق، أو تبادل بين المقاطع القصيرة والطويلة، وكذلك لا توجد قافية ووزن في الشعر، وأول ما يستوقفنا في الكتاب تلك الإشارة اللافتة عن قصيدة «التانكا»، أي القصيدة القصيرة، أو المسماة «واكا» لتميزها من الشي أي القصيدة الصينية، ويرى د. مطلق أن قصيدة «التانكا» قد لاقت زواجاً هائلاً تلك التي كانت تُحفظ في القصور الملكية وفيما بعد في مجموعات خاصة لدى المثقفين، ويوجد منها آلاف المجموعات وما تزال الصحف الأدبية المختصة تنشر قصائد «التانكا» يومياً، ويشير المترجم مطلق إلى انتشار هذا اللون من الشعر إذ أنه يرى أن «القيصر ميجي»، الذي حكم ما بين 1868 و1912، نشر أكثر من مئة ألف قصيدة من «التانكا»، على أن مطلع القرن الرابع عشر شهد انتشار عادة اجتماعية بين أوساط الشعراء والمثقفين، وهي نظم قصيدة «الرنجا»، أي القصيدة السلسلة المترابطة وهي عبارة عن صياغة «بناء علوي» جديد لبناء سفلي، وفي هذا التطور والانزياحات العروضية والوزنية والصرفية وربما البلاغية أيضاً، تطورت قصيدة «الهايكا»، وهي نمط من الشعر الياباني قام على حذف البناء السفلي أي السطرين الأخيرين الذي يحتوي كل منهما على سبعة مقاطع صوتية، وبقي البناء العلوي أي الأسطر الثلاثة الأولى ذات السبعة عشر مقطعاً صوتياً، ويؤكد د. المطلق أن المحاولة كانت في البداية هي تكثيف القصيدة عن طريق تقصيرها والسعي نحو دقة التعبير، وتحت تأثير التعليمات الفكرية لمذهب «زن» سعت القصيدة لتحقيق تأثيرات أدبية فنية معينة تقوم على أقانيم معينة منها اللامتناهي –اللامحدود- اللامنطوق-المستثنى والرمز.
على أن فترة ازدهار قصيدة «الهايكو» كانت الكلاسية، ففي القرن السابع عشر ازدهرت أفكار الزن والبوذية واللوحات المرسومة بالحبر الصيني، ويلفت د.مطلق إلى أن بعض شعراء «الهايكو» كانوا رسامين أو رهباناً كراهب مذهب «الزن» كبير شعراء الهايكو «ماتسو باشو» ولكن هل كان على قصيدة «الهايكو» الجيدة أن تقدم إلى جانب الصورة المثيرة الظاهرة للعيان، معنى خفياً عميقاً أو أكثر وراء السطور، أي الإيحاء الدال والذي يبث بلاغته الداخلية ولا يكتفي بمعجزة الشكل واجتراحه وعدد الكلمات، إذ أن المضمون هنا هو الشكل بذاته، وعلينا أن نلاحظ في تنكب الشاعر والمترجم د. شاكر مطلق تلك الأصول المعرفية ونماذجها الدالة «المختارات» من حداثة «الهايكو» على الأقل، أن “الهايكو” استقر في المحصلة إلى أن يكون قصيدة ذات أسطر ثلاثة ومقاطع صوتية هي سبعة عشر، والتي تحتوي على صور من الطبيعة أو انطباعات عنها، خلافاً لقصيدة «التانكا»، المحصورة بدقة الطبيعة بفصولها الخمسة وما تتضمنه من طقوس وعادات ونبات وحيوان وسوى ذلك، واللافت في ما لاحظه المترجم من أنه لا يطلب من الشاعر في قصيدة الهايكو أن يعرض عواطفه وانفعالاته الشخصية لخلاف قصيدة «التانكا»، وفي السياق أيضاً ما ذهب إليه –مطلق- من الإشارة إلى نمط شعري نشأ في القرن السابع عشر، يتقيد شكلاً بقصيدة «الهايكو» لكن محتواه هو العلاقات الإنسانية في محيط المدينة، وهو محتوى هزلي ساخر، إلا أنه لا يصنف في ديوان الشعر الياباني، ضمن نطاق الأدب الأصيل، وهذا النمط يعرف باسم «سنريو»، وعلى ذلك ذهب القسم الأول ليجلو فصول كتاب في الأشعار على نمط «الهايكو» لا سيما الفصول الخمسة وكذلك على نمط «التانكا» في ذات الفصول، لعدد من الشعراء اليابانيين وتجدر الإشارة إلى أن النماذج المترجمة مما كتبه الشعراء اليابانيون ومنهم على سبيل المثال «غيتو، وماتسو» وغيرهم وفق تصنيف لقصائد في مطلع العام والفصول الخمسة أنها استجابت لذلك الشعر من التقعيد الذي عُرف به «الهايكو» ففي قصيدة ماتسو التي يقول بها «اليوم يبدأ عام/ طاولة المكتبة/ الفرشاة/ الورق/ كما في العام القديم»، وعند «أونيتورا» يقول: «هذا يوم مطلع العام الجديد/ الذي انتظرناه طويلاً/ لم يكن أكثر من يوم ما»، ونلاحظ في الفصول كيف يقول «باشو»: «في العتمة يبدأ المرء يسمع هطول الندى/ كيف ينقضي الليل»، ونلاحظ هنا كيف ذهب الشعراء اليابانيون إلى اختزال تأملاتهم الذاتية وتطييف مشاعرهم بخصوصية الفصول الخمسة، مع شيء من الاستطراد في تجليات الحالة، لكنها في الأغلب الأعم كثافة رؤيوية ظلت على مستوى خصائصها الفنية أمينة للشكل الكلاسي والحداثي معاً في الثقافة اليابانية المعاصرة، على الرغم ما يشي بها سياقها القديم، لكن الأمر في نمط «التانكا» سيكون أكثر خصوصية في استقراء أفعال الفصول وتجلياتها لا سيما وأنها تتعالق بمضمرات فكرية وإنسانية متعددة، لنلاحظ ما قالته «القيصرة شوكن» -في قصائد مطلع العام-: «لو أن شعبي وأنا/ نسير دون تيه/ على الدرب الصحيح/ فإن الوطن سيكون راضياً وهادئاً»، وعلى سبيل المثال نلاحظ «التانكا» في قصائد في الخريف وعلى لسان «القيصر فوشين» والذي يقول: «عندما أفكر/ كم هو جيد ومريح وضعي/ يعتريني الخجل: لأن شعبي المسكين، شعبي الطيب ليس لديه سوى المصائب والتعب والحاجة».
لكن «مينا موتو يوريماسا» يقول: «الشجرة المطمورة لم تزهر أبداً/ طوال عمرها/ ثمارها كانت مرة/ ومليئة بالمعاناة» ما يستبطن نشيداً جنائزياً قبل الانتحار بشق البطن بالسيف: بطريقة هاراكيري.
إن تعدد الموضوعات التي شملتها قصائد «الهايكو» كما «التانكا» وتجلياتها في الثقافة اليابانية، وما يتصادى من محاكاتها في الثقافة العربية على الرغم من كثافة التنظير النقدي للأخيرة، قد انفتح «بالهايكو» على تعبيرات الإنسان المعاصر، ومدى ما يجعل من الشكل الكتابي وسيلة وليس غاية ليبث طاقة اللغة الخلاقة وما يتعالق معها من رمزيات اللغة في مقاربتها بقضايا مختلفة.
إن كتاب د. شاكر مطلق في هذا الاتجاه بما اشتمل من ترجمات مختلفة «للهايكو والتانكا» ومناسباتهما يشكل أساساً معرفياً لا غنى عنه في مقاربة أشكال القصيدة العابرة للغات والأمكنة، وبهذا المعنى، ما يغذي نزعة التثاقف الأصيلة وبما يجعل من اللغات في شرط انفتاحها هو شرط وجودها أيضاً.
الكتاب من منشورات اتحاد الكتاب العرب دراسة وترجمة الدكتور والشاعر والناقد شاكر مطلق.
أحمد علي هلال