فزاعة الأمن القومي الأمريكي
ألم تصل أمريكا إلى أن مسألة “تهديد أمنها القومي” أصبحت رواية ممجوجة، وأنه من غير المقبول أن كل شيء في هذا الكون يهدد أمنها القومي، حتى ولو كان خارج كرتنا الأرضية. الجميع يعلم أن هذه الرواية هي العصا التي تهدد بها من لا يتناغم مع سياستها، ولكن أن يتم استخدامها ضد كندا أقرب الحلفاء إليها على طول تاريخ البلدين، ففي الأمر حكاية أخرى.
لم يكن متوقعاً أن تنقلب أمريكا على كندا حليفتها الجيوستراتيجية بين ليلة وضحاها على موضوع العلاقات التجارية لمجرد أن ترامب قيّم سلباً التبادل التجاري في مجال الزراعة حين غرد: “موقف كندا تجاه قطاعنا الزراعي وفلاحينا كان سلبياً خلال فترة طويلة، وشهدنا قيوداً خاصة مفروضة على التجارة. يجب عليهم فتح أسواقهم، وإلغاء الحواجز التجارية”، رغم أن الدولتين كانتا متفاهمتين على هذه النقاط قبل أن يأتي ترامب إلى البيت الأبيض بعقود.
في الواقع يريد ترامب معاقبة كندا على مواقف سياسية اتخذتها بانحيازها إلى جانب الشركاء في مجموعة السبع التي غادرها ترامب غاضباً، أما فكرة تهديد الأمن القومي للولايات المتحدة، فقد باتت مهينة وغير مقبولة، وعليه لابد من التفكير في نوعية الإشارة التي ترسلها الولايات المتحدة إلى شركائها بمثل هذه التصرفات، كما أن هناك أسئلة كثيرة عن ماهية الإشارة والرسائل التي تريد إرسالها أمريكا لأقرب الحلفاء.
لا شك أن الرسالة واضحة، وهي أن الملياردير لا تعنيه السياسة بكل أشكالها، وما يعنيه فقط هو المال والوضع الاقتصادي، وهو يرسل رسالة أنه لا يعترف بأية علاقة لا توجد من ورائها مصالح مالية واقتصادية، وحتى الحلفاء ليس عليهم أي “تابو” حين تعارض المصالح الاقتصادية، لكن من التصرفات التي يسلكها ترامب لا يبدو أنه يسعى لتلك المصالح التي يتحدث عنها بأنها تهديد لأمن بلاده القومي، بل كل ما يريده الابتزاز وتسخير موارد العالم لمصالح بلاده حتى على حساب الآخرين، وتحت مسمى “الأمن القومي” الذي بات فزاعة العالم، والتي من ورائه دمّرت أمريكا دولاً بأكملها، وأسقطت أنظمة كانت من أقرب الحلفاء إليها.
بهذا الموقف المثير للجدل تنزلق الولايات المتحدة وكندا إلى أزمة دبلوماسية وتجارية بعد حملة السباب والشتائم المتبادلة، لكن الرئيس الأمريكي هو من قام بهدم الثقة بتبنيه مواقف متناقضة، فقد قام بالتغير المفاجئ في غضون ثوان، وقام بهدم الثقة من خلال 280 حرفاً على تويتر، دون أن يدرك أن الأمر سيستغرق وقتاً أطول بكثير لإعادة بناء الثقة المفقودة بعد أن بات سلوكه مثار قلق كبير للجميع، ولا يدري أحد إلى أين ذاهبون، بالإضافة إلى استحالة التنبؤ بما سيفعله في الخطوة التالية.
من الطبيعي أن تتخذ كندا إجراءات احتياطية ومماثلة رداً على قرار ترامب فرض رسوم على واردات الصلب والألمنيوم، ولكن إلى أي مدى سيستمر هذا التصعيد، أم أنه مجرد لفتة شعبوية، كما جرى مع رئيس كوريا الديمقراطية حين ألغى القمة بينهما، ثم عاد وتراجع عنها؟!.
علي اليوسف