مظفر النواب شاعر الغربة والضياع
يرى د. عبد الله الشاهر مؤلف كتاب (مظفر النواب.. ملامح ومميزات) أن في عمق الشاعر النواب طبيعة شرسة وجغرافية تكتشف جديدا ليس لها, خارطة تؤطرها بالرغم أنها تستمد تضاريسها من قسوة الواقع وقد لامست ذلك كله من خلال ما أحاط به من تصوير رائع وأفكار متتالية, أغنت الفكر والشعر بتلوينات أسلوبية خفيفة, إنه محاولة تلمس ملامح الشاعر ومميزاته بهدف استكشاف روحه وسبر أغوار تجربته الشعرية, التي أخذت مساحة واسعة في صفحة الشعر المعاصر بما طرحت من أفكار وبما امتازت به من خصائص. إنه شاعر الغربة والضياع، شاعر فقد استقراره، فقد حتى امتداده في الحياة.. ابتعد عن مصدري الحنان أمه ووطنه, فكان ذلك مصدر حنين دائم لديه, الغربة في ذاته دمعة متحجرة لا يمتلك لها طريقا, والوحدة في ذاته شكل أسطوري. آلمه الأمر فغار اليأس في قعر ذاته ليشكل له غصة دائمة لا تكاد تهدأ حتى تثور شوقا, وحنينا, وألما فلم يبق لديه سوى البكاء من خلال الشعر.
في كتابه هذا يؤرخ د. الشاهر لظاهرة شعرية متميزة ونادرة, ولها تلك الحالة الشعرية الخاصة, كتابات كثيرة تناولت تجربة الشاعر مظفر النواب, إلا أن الشاعر الناقد الشاهر, استطاع أن يكوّن لكتابه هذا تلك الميزة والبصمة الخاصة، من حيث هذه الاشتغالات المكثفة, ومن حيث البنية المنهجية, واللغوية, والحالة الشعرية المندغمة في قلب هذه الدراسة المتميزة, والمنسلة من عباءة الشعرية النوابية, اثنان وفقا في صياغة كتاب سنقرؤه بكثير من الحب والشغف (النواب والشاهر) في كتاب جاء في (196) من القطع الكبير، صادر عن دار التكوين- دمشق (2018).
الكتاب مقسم إلى عدة فصول منها:(مظفر النواب ورحلة العمر) إذ يعتبر الشاعر النواب ظاهرة خاصة في سلوكه وحياته, فهو متفرد متشرد كما هو في شعره, تمرد على الحياة فقست عليه وأضنته بما لاقى منها فشكاها بشعر أقرب إلى الوجدان منه إلى الواقع. (هذي الحقيبة عادت وحدها وطني, ورحلة العمر عادت وحدها قدحي / أصابح الليل مصلوبا على أمل, أن لا أموت ميتة الشبح) ص 18.
ولد الشاعر مظفر النواب في أسرة ثرية أرستقراطية توافرت لديها عوامل النجاح السياسي والثقافي والاجتماعي, كانت عائلته تمتلك أرضية ثقافية كبيرة ومتنوعة من أدب وفن, وفي منزل عائلته الكبير جدا كانت تقام كثير من الأمسيات الأدبية والفنية,وقد ساهمت هذه الأجواء والمناخات في تكوين البوادر المبكرة من شعر ورسم وذائقة موسيقية.
في الفصل الثاني الذي حمل عنوان التجربة الشعرية عند الشاعر مظفر النواب، لعّل أول ما يطالعنا في أشعاره خطان عريضان يشكلان مسار مسيرته الشعرية، وهما في ذات الشاعر ويعتبران هاجسه الذي لا يهدأ, ومن خلال هذين الخطين الأساسين تتفرع أنهر من الثورة والحب والحنين والوطن والغربة والجنس والوحشة والسكر والصوفية والمطلق, وتتداخل هذه الأنهر لتصطدم بالواقع فتشكل شلالات من القلق والتشرد والضياع, واليأس, فتخلق في ذاته عالما مليئا بالأضداد, يحمله في ذاته الجريحة والمسكونة بالقلق الدائم.
(إنني صبّ أسمّي كلّ مايسلب لبّي خمرة / إن كان حسنا, أو قراح الماء من كفّ كريم, أو حزاماً ناسفاً أو بيت شعر أو مداما) ص 66
ملامح ومميزات عنوان الفصل الثالث من الكتاب ولعّلنا لانبالغ إذا أدرجنا النواب كشاعر مبدع في منهجه وأسلوبه حيث كونت تجربته الشعرية ظاهرة متفردة ومتميزة في شكلها وفي مضمونها, مما تركت أثراً واسعاً على المستويين الأدبي والجماهيري (ياغريب الدار إنها أقدار, كل ما في الكون مقدار, وأيام اللهو, إلا الهوى, ما يومه يوم ولا مقداره مقدار) ص 91 ثم ينتقل بنا المؤلف إلى فصل مهم بعنوان مميزات الشاعر النواب, حيث يتوقف بنا عند أهم ميزات شعره وهي: الحزن- البحث عن الذات- الرمز التراثي- الخروج عن المألوف- النزعة إلى الرؤى التهويلية.
(يا غرباء الناس أغمض لأن الدمع يجرح أجفاني في الحلم, يطيبني الدمع وتأتي الأفراح, كسلسلة من ذهب من كنزك, يا ملك الأنهار بقلبي, أبكيك بلاد الذبح, كحانوت تعرض فيه ثياب الموتى) ص 145. ويختم د. عبد الشاهر كتابه القيم هذا بنشر قصيدة الشاعر النواب (وتريات ليلية) كاملة.
أحمد عساف