تحقيقاتصحيفة البعث

العيد مشاعر إنسانية وسلوكيات صادقة

 

لم يكن مجيء العيد هذا العام كمجيئه في سنوات الحرب القاسية، خاصة بعد أن تحررت دمشق، والكثير من المحافظات السورية من رجس الإرهاب، ليأتي عيد الفطر حاملاً معه السلام والأمن والطمأنينة في نفوس الكثيرين ممن ذاقوا مرارة الحرب، ولوعة الفراق والحرمان من أقربائهم الذين فقدوهم خلال الأزمة فداء لوطنهم الغالي، والذين لم يعد باستطاعتهم رؤيتهم إلا من خلال زيارة قبورهم، وما العيد إلا فرصة لزيارة هذه القبور، والترحّم على الموتى، وزيارة الأقارب والأصدقاء بعيداً عن هموم الحياة التي أثقلتهم وأبعدتهم عن هذه الطقوس، ففي العيد تتجلى أسمى صور التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع، والأقارب والأهل، ويتبادلون التهاني بحلول هذه المناسبة عليهم، وترتسم البسمة والعفوية على جباه الصغار والكبار، والأغنياء والفقراء، بعيداً عن وجع الحرب القاسية.

زيارة القبور
مشهد أغصان الآس هو الحاضر دائماً في صبيحة العيد منذ عقود، لتوضع هذه الأغصان على قبور الموتى كتقليد قديم وجد فيه البعض إحياء لذكرى موتاهم، حيث تتجلى أواصر المحبة والعرفان في صباح اليوم الأول من العيد عندما يتجّه من فقد عزيزاً عليه إلى المقابر للصلاة على أرواحهم، فمنهم الأهل، ومنهم الأقرباء، ومنهم الأصدقاء ممن خطفهم الموت عن حياتنا، وغيّبهم القدر عن وجودهم معنا في الفرح والترح، ليأتي العيد وأجسادهم غائبة، وذكراهم حاضرة في قلوبنا، لا حول ولا قوة لنا في العيد إلا بالترحّم على أرواحهم، وهذا ما جرت عليه العادة في مجتمعنا، واليوم وبعد سنوات طويلة من الحرب الآثمة على بلدنا، لا يكاد يخلو منزل إلا وفقد عزيزاً، وبقيت الأمهات الثكالى وحيدات يتجرعن مرارة الحزن على أفلاذ أكبادهن، وعلى من فقدن خلال الحرب من الأهل والأقارب، ليكون العزاء الوحيد لهن في زيارة قبور موتاهم كي يشعروا أرواحهم بالراحة.

غسل للنفوس
يأتي العيد ليجمع شمل الأسر المفككة، ويجبر الجميع على التواصل، ومد أواصر التعارف بعد أن فككتها ضغوطات ومشاكل ومتاهة الحياة، خاصة أننا نرى في مجتمعاتنا هذه الأيام أن العائلات لا تلتقي ولا تتجمع إلا في المناسبات الاجتماعية رغماً عنهم، مضطرين لذلك اضطراراً، ومما لا شك به أن الأزمة أبعدت الناس عن بعضهم بسبب ازدياد الهموم التي أثقلت كل بيت من بيوت السوريين، ليكون المتنفس الوحيد لإعادة أواصر المحبة بينهم هو مناسبات العيد التي تأتي كضيف خفيف يحمل في جعبته الود والألفة والرحمة، فالعيد، برأي الدكتورة هيام ونوس، “علم اجتماع”، هو فرصة ليقوم بها الإنسان بمراجعة أعماله وسلوكياته، وتجاوزها قدر المستطاع من خلال المبادرة لإنهاء النزاعات العائلية، وهو وسيلة لغسل النفس من الكراهية والأحقاد، وفرصة لتنقية النفوس، وحافز لحل الخلافات العائلية من خلال التواصل الاجتماعي، تحقيقاً لتوطيد الألفة والمحبة بين الجميع، فالعيد ليس مظاهر مادية تنتهي بانتهاء العيد، بل مشاعر إنسانية، وسلوكيات صادقة معبّرة عن قيم التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع.

صلة الرحم
أبواب الخير والبر في العيد كثيرة لا تعد ولا تحصى، فمن أوجه البر والخير في الأيام المباركة الإنفاق على الأهل والأبناء والأقارب، ومساعدة المحتاجين والفقراء في هذه الأيام، ليشعر الجميع بفرح العيد، برأي الدكتور عبد الرزاق المؤنس، “معاون وزير الأوقاف سابقاً”، واستشهد المؤنس بقوله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة، والكافرون هم الظالمون”، ودعا المؤنس الناس إلى زيادة صلة الرحم خلال أيام العيد لتأليف القلوب، وزيادة المحبة، وتمتين الروابط الأسرية التي أصابها الكثير من التفكك بسبب وتيرة الحياة، والأزمة التي نمر بها، فصلة الرحم إحسان إلى الأقربين من ذوي النسب والأصهار، والعطف عليهم والرفق بهم، والرعاية لأحوالهم، وخدمتهم، وتفقدهم بين الحين والحين، حتى وإن بعدوا أو أساؤوا، امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم: “صل من قطعك، وأحسن إلى من أساء إليك، وقل الحق ولو على نفسك”.
ميس بركات