مها الصالح في ذكراها.. أنْ تكونَ حالةً خاصة لا تُشبِه سِواك
أذهلت الحضور أينما أطلت، بل لعلها امتلكت القدرة على إثارة تلك الدهشة منذ إطلالتها الأولى، قادمة من مدينتها جبلة بنظرات هائمة وحضور آسر، ورنة صوت مميزة لها وقعها على أذن سامعها كان سبب نجاح كل شخصية تقمصتها، من البحر السوري إلى ميدان الفن قدمت فثبتت قدميها في مجالاته المتعددة، واحتلت حيزها الخاص فتركت بصمتها المميزة في المسرح أبو الفنون، لتصبح رغم المعاناة زهرة المسرح السوري في فترة وجيزة، منطلقة من موهبتها واجتهادها وثقافة منبتها وخياراتها الصائبة لتتوج ملكة على العرش الذي وضعته نصب عينيها.
هي الفنانة مها لصالح التي يصادف ذكرى رحيلها في 14 تموز والتي وهبت عمرها للفن والمسرح على الأخص الذي بقي شغلها الشاغل حتى النهاية.
ولدت “سيدة المسرح السوري” اللقب الذي أطلقه عليها الكاتب الكبير حنا مينة في جبلة المدينة الساحلية في العام 1945، وحين أصبحت في الثامنة عشرة من عمرها، وقبل أن تكمل دراستها الجامعية في كلية التجارة تركت القياد للطاقة الفنية الكامنة في داخلها، فخطت أولى خطوات مسيرتها الفنية في العام 1963، وانطلقت إلى المسرح لتقدم أول أدوارها فكانت الوجه الجديد في مسرحية “الخجول في القصر” للمخرج رفيق الصبان، ثم قدمت أول دور احترافي لها في مسرحية “دونجوان” في العام 1964، العمل الذي اختارها له الفنان أسعد فضة والذي أصبح زوجها فيما بعد ليشكلا ثنائياً حياتياً وفنياً، ويكون أحد أسباب تألق وتألق نجمها في الساحة الفنية، مسيرة شكلت علامة من علامات الفن السوري.
في الدراما
في فترة الستينيات لم يكن الإنتاج الدرامي ضخماً كفاية فيستوعب فناني عصره، لكن من بين هؤلاء كان للفنانة مها الصالح القدرة على حجز مكانها الدائم في الأعمال المنتجة القليلة، والظهور عبر عدد من المسلسلات التي علقت في ذاكرة المشاهدين مثل “حارة القصر، أبو كامل، حكايا الليل، امرأة لا تعرف اليأس، برج العدالة، البحر أيوب” وسواها.
في فترة السبعينيات زادت فرص حضورها درامياً تبعاً للتطور الذي شهده القطاع الدرامي وبقيت بموهبتها وطاقتها المتجددة حاضرة في أذهان المخرجين وضمن خياراتهم، حضوراً فرضته حتى بعد دخول التلفزيون عصره الملون، وفورة الوجوه الجديدة التي كان أقصى أحلامها الظهور الجزئي في أي عمل درامي لتحافظ هي على مكانتها في الساحة، بل لعلها انتقلت من الأداء والتمثيل إلى لعب دور المرشدة والمعلمة للجيل الجديد القادم إلى ملعبها.
في السينما
صورتها تلك وحضورها الآسر كانا مفتاحها السحري لعبور البوابة إلى عالم الفن السابع، السينما، حيث كان لها مكانتها الخاصة وحظوتها عند المخرج السوري محمد شاهين فشاركت في أهم الأفلام التي أنتجتها السينما السورية بينما أهلتها لهجتها الأم للمشاركة في أكثر من عمل للمخرج الكبير عبد اللطيف عبد الحميد في سينماه ذات الخصوصية المميزة، فتترك في سجلها عديداً من الأفلام منها “ثلاثية العار، نجوم النهار، الطحين الأسود وصندوق الدنيا”.
المسرح.. عِشْقها الدائم
صحيح أن السينما استقطبت مها الصالح لكنها وفي قرارة نفسها ربما كانت تعلم أنه عالم أخذ منها أكثر مما قدم لها، بينما بقي المسرح ملعبها فيه تنطلق بحيوية ونشاط وقدرة على التطور المستمر من خلال اختياراتها للنص المتميز مقدمة لعرض متميز يشد الحضور والنقاد والآراء المتميزة، هكذا بقي المسرح عشقها الأول والأخير إذ تقول: ” في المسرح أجد نفسي في تواصل مباشر وحي مع الجمهور وهذا لا يتوفر إلا في المسرح، أعيش الحلم وإيقاع التواصل في آن واحد، المسرح بالنسبة لي، هو كل شيء، هاجسي وحلمي وأملي والنبض الذي أعيشه، الأحلام لا تنتهي وإلا لتعطلت الحياة، ولتعطل العطاء ولهذا أنا احلم بالجديد وأتوق إليه، والمسرح هو المكان، الذي أرى أنني استطيع أن أحقق على خشبته ما أسعى إليه اليوم وما أحققه وما أحلم به للمستقبل”.
تألقت في أعمالها المسرحية منذ البداية وكان لها حضورها الفعال في مسرح الشوك التجربة السورية المتميزة التي لم يكتب لها الاستمرارية، اشتهرت بالتركيز على قضايا تهم المرأة ودورها في المجتمع، والعمل على إخراجها من الصورة النمطية التي رسمت لها، فهي غالباً ما بحثت عن النص الذي يثير اللغط حوله، ويفتح المجال أمامها بل يدفعها للبحث عن أجوبة لتساؤلاتها تلك التي بات عليها أن تطرحها بوضوح وجرأة، وتعبر عن همومها بنفسها وليس عبر الآخرين. وبالتوازي مع عملها في المسرح القومي عملت الصالح على تأسيس فرقتها الخاصة التي أطلقت عليها اسم “موال” والتي قدمت عبرها أربعة أعمال هي “قبعة المجنون، شجرة الدر، الأيام الحلوة” و”خطبة لاذعة” العمل الذي كان أقرب إلى المونودراما النوع الذي تميزت به إذ وظفت حضور المشاركين في العمل لدعم حضورها فكان عليهم الصمت طوال العرض لتكون هي الصوت الأوحد تطرح الأسئلة وتقدم الأجوبة في حوار أدارته مع زوج فرضت عليه الصمت لتكون بالفعل “صوت المرأة السورية” والصورة المشرقة لها في الساحة الفنية كما تود لها أن تكون: “أحب تقديم المرأة كما نحلم أن تكون، من خلال خطاب مسرحي بما يتضمنه من ثورة في خدمة مجتمع إنساني يسمح للمرأة بإعادة صياغة كينونتها مع نفسها ومع محيطها، لا بد للمرأة من أن تطرح قضاياها وتعبر عن همومها ومعاناتها بنفسها وتخرج من الشرنقة”، دون أن تتحول العلاقة ما بين الاثنين إلى نوع من الحرب وأوضحت الأمر في أحد حواراتها الصحفية “أعتقد أنني مرّرت مقولة أن المرأة قد تكون عدوة للمرأة.. ومرّرت أيضاً أن علاقتي بالرجل ليست “داحس وغبراء” بل هناك مساحة للتكامل قد تكون أن يفهم واحدنا الآخر، ويتكامل معه لأن الإنسان هو البؤرة الأساسية وعليه تقع الإشكالات الحياتية سواء المتعلقة بالجانب الإنساني أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي لذا كان هو شغلي الشاغل عبر إثارة الأسئلة التي من شأنها أن تفتح الباب للفعل الضروري للخلاص”.
كما قدمت عدداً آخر من الأعمال شكلت علامة بارزة في المسرح منها “عرس الدم، جان دارك، الملك لير، العنب الحامض، الزير سالم، حكاية بلا نهاية، ذاكرة الرماد” وعدد آخر من الأعمال.
لم يقتصر حضورها على الساحة المحلية بل هي عملت على المشاركة الدائمة في الفعاليات والنشاطات المسرحية العربية والعالمية، فسجلت حضوراً متميزاً في مهرجانات عالمية هامة سواء في بريطانيا أو في باريس وألمانيا، وأيضاً في روسيا وإيطاليا، إضافة إلى حضورها عربياً في جرش والفجيرة والخرطوم والجزائر وغيرها من المهرجانات، مشاركات وأعمال حازت عبرها العديد من الجوائز وعلى الخصوص مسرحيتها “شجرة الدر” التي أهلتها لنيل جائزة “صاحبة الكلب تشيخوف” في موسكو، وجائزة أفضل ممثلة في مهرجان المتوسط عن مسرحية “عيشة” وعدد من الجوائز عن دورها في فيلم “صندوق الدنيا”.
لكنها في الرابع عشر من حزيران عام 2008 وربما تصديقاً لقول الراحل ممدوح عدوان “إن المسرحيين هم الأكثر عرضة لمرض السرطان لأنهم يعانون بصمت” لملمت مها الصالح أوراقها وأحلامها وآلامها ورحلت بعد معاناة طويلة مع المرض لتترك خلفها أعمالاً لا تشبه سواها، تشكل حالة خاصة تستحق أن يتم تسجيلها في تاريخ الفن السوري.
بشرى الحكيم