متغيرات الفنون في الحرب
العلاقة بين الزمن من جهة والحرب من جهة، وبين الأدب من جهة أخرى، والأدب أو الفنون عموما من جهة ثانية –باعتبار أن العديد من النظريات ذهبت لجعل الأدب من الفنون- ليست بالجديدة على المشهد العام للعالم برمته، بل إنها قديمة قدم الحرب والأدب معا، مع كل حرب تنقضي، ينقضي عالم كان قائما من الأفكار والعادات والقيم، ويجيء عالم آخر له نفس التسميات ولكن بتفاصيل مختلفة، فما كان سائدا قبل الحرب العالمية الأولى في المجتمعات التي تتأثر بالفن وبالزمن أيضا، ليس هو حاله بعده، والأمر ينسحب أيضا على الحرب العالمية الثانية، التي كانت من القوة بالتأثير على الأدب والزمن ولكن بتقنياتهما، حتى أكثر مما كان يتخيل أي شخص، فما هو الحال الذي سيكون عليه نوع فنوننا المقبل في حال انتهت الحرب؟ هذا ما لا يمكن التكهن أو على الأقل الحسم فيه، فما هو موجود ومنتشر من هذه الفنون، رغم أهمية “الكم” فيه، إلا أنه موضوعيا لا يمكن اعتبار أن “الكم” يتجاوز النوع، والحال أو السمة التي اجتاحت الفنون المحلية منذ مدة، موضوعاتها الأثيرة كانت الحرب ولا تزال الحرب، سواء من أولئك الذين قاموا بإنشاء مسارح في باحات أوروبا بعد اللجوء يمثلون فيه وكأنهم بدائيين في أرض جديدة، أو محليا عندما كانت نفس الثيمة هي الحال أو السمة الغالبة، أيضا على معظم الفنون، في انعكاس لا شعوري لقوة الحدث وفي رد يُعتبر بدائيا حتى اللحظة، من جهة المقاربة الأدبية والفنية له، سواء في المكتوب أو في المرئي.
العلاقة بين الحرب والأدب كانت موجودة دائما، على مدى فترة طويلة من الزمن، تمتد في الزمن الأدبي العالمي، من زمن هوميروس و”حروب طروادة” في “الأوديسّة” و”الإلياذة” وحتى أعمال الكاتب البريطاني الشهير جورج اورويل وغيره من الكتّاب والأدباء المعاصرين، ولا يغيب عن البال أيضا معرفة أن أهم القصائد الشعرية العربية، كانت الحرب موضوعاتها الأقوى، إلى جانب الغزل، والفخر والرثاء وغيرها من الموضوعات، التي خاض فيها الأدب بكافة أنواعه، ومنه الشعر “ديوان العرب” الذي يكتظ بقصائد الحروب، وبصورها الشعرية الجديدة والمختلفة، بل وحتى في الوصف الشعري الكثيف، الذي عمل بذكاء على نقل الصورة إلى القارئ وكأنها شريط سينمائي.
إلا أنه وعلى وما يبدو فإن الحرب الأخيرة، التي يخوض العالم فيها على التوقيت السوري، خلقت أدبياتها الخاصة وفنها الخاص، أو لنقل خلقت مفردات تعبيرها وأساليبها التي نمت إلى جانب ما نما بجانبها، من خراب ودمار وقتل، فهاهي حساسيات شعرية “شبابية” سوريّة مختلفة المشارب والأيديولوجيات العميقة، تُعبر بأسلوبها الأدبي المختلف والجديد، عن هذه الصيغة التي نحياها اليوم، تحت عنوان واحد وعريض “نحن تحت سماء الحرب جميعا” تلك الأدبيات بأنواعها واختلافها وإن كانت تميل بغالبها نحو النصوص المفتوحة، التي تنشد منطق النثر- في الشعر- مع شيوع أصناف جديدة، أو ليست جديدة بقدر ما تم تسليط الضوء عليها بشكل أكبر بسبب الحرب، كما قصيدة “الومضة” أو “الهايكو” السوري أو ال “ق.ق.ج” ومسميات أخرى لم تنضج دلالتها بعد، هذه الأدبيات انتقلت أيضا بمفرداتها العامة إلى فنون أخرى، كالمسرح والسينما والدراما التلفزيونية والأغاني، إنها ببساطة-أي الحرب- تخترع مزاجها الأدبي والفكري والفلسفي والاجتماعي، الذي هو الحامل الأساس لمعظم تلك المتغيرات.
ففي الشعر على سبيل المثال لا الحصر، أغلب المقالات النقدية –الجادة طبعا- التي كتبت عن الشعر مثلا، السبع العجاف المنصرفة، وصفته أنه بلا هوية، بلا شكل، بلا لون، بلا حضور أكيد وواثق، ولا قدرة له على صناعة رأي شعري مختلف، رغم وجود بعض الأسماء التي استطاعت أن تنفذ إلى حساسيات جديدة ومختلفة والتقاطها للتعبير عن ذاتها وعن محيطها، وهناك من ذهب نحو التفاصيل البوحية العميقة، معتمدا على تقنية رمزية المعنى، فهي تريد أن تقول ما لم يقل- أو هكذا ربما يخيل لها- ورغم أن الحرب هي الأساس أو النقطة العمياء التي ترتكز عليها معظم تلك القصائد، إلا أن بعض الشعراء فهموا كيف يقدمون كلاما يختزل الوجع والألم والفرح، كلاما يختزل الحياة، ومنه بالتأكيد ما يستحق عناء القراءة، لأنها عناء فعلي الآن خصوصا في ظل وجود نتاج أدبي رديء جدا، وليس هذا وليد مرحلة تمر، بقدر ما هو صياغات عامة، تعطيها الحرب شرعيتها النوعية، واختلاف الأسلوب مع الفرادة والابتكار وخصوبة الخيال، يعطيه لقب القصيدة، وإن كان من ذكرنا، هم القلة بين العدد الهائل “للشعراء” الذين أنتجتهم السنوات الماضية، وهذا طبيعي فلطالما كان الجيد نادرا، لكنه عندما يظهر، فإنه لا يختبئ، بل يعلن عن ذاته بذاته، لا بالأماسي المسرحية التي تقام هنا وهناك، بل في وجدان القارئ القادم، والمشاهد القادم، الذي لا ريب سينصف من كانوا أهلا لما إليه تنطحوا، ومن كانوا مجرد مريدي شهرة لا أكثر، ويدرون أن الشعر والعلاقات العامة قادرة على صناعتها؛ على كل حال الزمن ينصف في حال خطير كحال الأدب والشعر منه بشكل خاص، هذا إذا اعتبرنا أن باقي الفنون، على خير ما يرام!.
هذا في الشعر الذي يتعاطى به الجميع، وبنفس الوقت لا يقتربون حتى منه، فكيف في بقية الفنون التي صار لها رموزها الخاصة والنابعة من قلب الحرب، والحيّة على استعارها أيضا؟، وهذه من سمات الحرب الجديدة أيضا، كان لها أن عرفت المواقف، خصوصا في الطبقة “المثقفة” والمحسوبة على أهل الفكر في البلد، والتي هي أيضا -ولا يمكن معرفة كيف ذلك-محسوبة على الثقافة وأهلها عموما، لكن الامتيازات لم تتغير، بل حتى أنها صارت أوضح في حرب أدبية “طائفية” أيضا تجري في المنطقة العربية، إلى جانب تلك الحرب الخاصة في الفنون، والتي صارت تكتظ بها الشاشات ومواقع التواصل، هناك عودة تركية مثلا للزمن العثماني بإعادة خلقه في الدراما التي بدأت بالحب والسياحة، وانتقلت بدهاء إلى حريم السلطان، فمن يفرض فنه هو الرابح بالنهاية، وهذا نداء تحذيري لكل المشتغلين في الفنون، خصوصا المرئية منها، هناك من يحاول أن يفرض فنه عليكم، على جمهوركم محليا وعربيا، إن كنتم تعقلون!.
تمّام علي بركات