المشكلة مع الولايات المتحدة كبيرة ومستمرّة
لم يأتِ من فراغ اتهام الناطق باسم وزارة الدفاع الروسيّة لواشنطن بتوفير الحماية والغطاء لتنظيم داعش الذي ولِدَ بعد الغزو الأمريكي للعراق. وللحقيقة فإنّ المسألة ليست مسألةَ «اتهام» بل مسألة واقع مشهود تتوافر أسبابه ونتائجه بوضوح على الأرض وعلى مسرح الأحداث الجارية خصوصاً في سورية والعراق. فداعشُ وأشقاؤه من عصابات التطرّّف والتكفير والإرهاب من أهمّ رهانات الحلف الصهيوأطلسي – الرجعي العربي لزعزعة الأمن والاستقرار والسلام والعيش المشترك في البلدان العربيّة والإسلاميّة.
هذا ليس كلاماً حزبيّاً، بل هو جزءٌ من الاستراتيجيّة التاريخيّة المعاصرة لهذا الحلف والواضحة من بعد الحرب العالميّة الثانيّة – وإذا شئت من بعد الحرب الأولى – من اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور، واحتلال فلسطين، ولقاء الملك عبد العزيز بن سعود مع الرئيس الأمريكي روزفلت على المدمّرة الأمريكية كوينسي في منطقة البحيرات المرّة عام 1945 وما أعقب ذلك من طفو سياسة البترودولار، وضرب حركة الاستقلال والتحرّر الوطني العربيّة، وتمكين المشروع الصهيوني لمواجهة المشروع القومي العربي، وما واكب ذلك جميعه من تشكيل وتفرّع جماعة «الإخوان» المسلمين وتطوّر الرهان عليها.
الإدارة الأمريكيّة لم ترعَ في يوم من الأيام حلّاً سلميّاً شاملاً وعادلاً لأيّ مشكلة في المنطقة، لا على مسار الصراع العربي الصهيوني، ولا على مسار الصراع مع الإرهاب والتطرّف والتكفير، وهي اليوم لا شكّ تقف بالمرصاد في وجه الحلّ السياسي للأزمة في الجمهوريّة العربيّة السوريّة، بل هي تخشى هذا الحل وترفضه بالمطلق لأنَّها لا تجهل عراقة الشعب السوري وطاقاته الكامنة القادرة على إعادة البناء والإعمار المعنويّة قبل الماديّة، لأن ما يجمع بين مكونات هذا الشعب أصيل وعريق ووطيد ومعروف بوضوح ويُراهَنُ عليه بقوة.
كلّما حقّقت مؤسّسات الدولة الوطنيّة السوريّة السياسيّة والاجتماعيّة والعسكريّة إنجازات في مسار الحلّ السياسي تعمد الإدارة الأمريكيّة وأذنابُها على تقويض هذه الإنجازات بالعدوان المباشر، وبالإيعاز إلى التركي أو الصهيوني أو الرجعي العربي للقيام بافتعال إشكالات وأزمات متنوّعة ومتعدّدة ومتتالية بهدف العودة إلى المربع الأوّل في الأزمة.
وفي الوقت الذي استجابت فيه الحكومة السوريّة لاستكمال ودعم المسار السياسي للحلّ، والبدء بالإجراءات اللازمة لتشكيل اللجنة الدستوريّة، وقبيل اجتماعات ديمستورا مع الدول الضامنة لاجتماعات أستانا قام «التحالف الدولي» الذي تقوده واشنطن بعدوان سافر على القوّات السوريّة والعراقيّة التي تتضافر جهودها وتحقّق هزائم متلاحقة لداعش، يأتي هذا العدوان في سياق تمكين داعش والرهان عليه لدعم الوجود الأمريكي كقوّة احتلال على الأرض السورية، وقد واكب هذا العدوان دعم «قسد» من جهة ودعم نقيضها الاحتلال التركي من جهة أخرى في منبج ومحيطها.
يؤكّد هذا العدوان أن المشكلة مع الإدارة الأمريكية ليست كبيرة ومستمرّة فحسب، بل خطيرة أيضاً ومؤشراتها مقلقة لا شك، وهي في سياق الاستهداف المتكرّر للجيش العربي السوري، فعقب كل تقدّم يحرزه في هزيمة الرهان على العصابات الإرهابية تقوم الولايات المتحدة بضبط متجدّد ومتوزّع للجغرافيا التي تسيطر عليها داعش وقسد والأتراك.
فإذا بقيت الحالة على هذا المنوال فماذا يبقى من المسار السياسي لحل الأزمة، وما جدواه، وما جدوى العمل على تعزيزه وتطويره، والبحث في تشكيل اللجنة الدستوريّة، وما الذي يمكن أن تنجزه هذه اللجنة مع النوايا الأمريكية في العودة إلى المربع الأوّل أي الاستثمار في الإرهاب؟.
هذه المشكلة الكبيرة والمستمرة والمقلقة لا تدفعنا إلى الخوف ولا إلى اليأس، فلدينا بدائل قوة وتفاؤل عديدة وحيّة يراهن عليها الشعب السوري، والشعب العربي، وأحرار العالم وشرفاؤه. أولها ثقة السوريين بأنفسهم، وإيمانهم بعدالة قضيتهم، كما أن محور الصمود والمواجهة والمقاومة أصيل وعريق وقواه ظاهرة وكامنة ومتجدّدة وقادرة على الحضور والفعل. فنتنياهو الذي كان بالأمس يتباهى بفبركة اختراق الأرشيف النووي الإيراني تخرّ حكومته اليوم تحت وطأة تجسّس وزير الطاقة السابق لصالح طهران، وقد يكون هناك غيره، فالمجابهة والمقاومة ليست عسكرية فقط بل هي وطنية عروبية تقدمية بصيَغها ومكوناتها السياسية والاجتماعية والثقافية والعسكرية أيضاً.
بالنتيجة: علينا أن نتذكّر أن حركة التحرر الوطني العربية لم تنجز هدفها في سنين قليلة، ولا في عقد واحد من الزمن، بل استغرقت عقوداً عديدة وتضحيات جساماً، ولم تكن مقطوعة الصلة عن حركة التحرر العالمية في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. إن العالم يتشكّل من جديد، ورهاننا قوي على الشكل الجديد القادم الذي لن تكون فيه الولايات المتحدة لا في المنطقة ولا في العالم مهيمنة ولا قوة أحادية القطب.
د. عبد اللطيف عمران