صفر مربع للعربان!؟
د. نهلة عيسى
أتابع مباريات كرة القدم في المونديال, ببلادة المعتاد على خسائر العرب, لكن رغم ذلك أشعر بنوع من الارتياح, لأن الساحرة المستديرة تلهيني عن متابعة لعبة خلط الأوراق الجارية من جديد في جنيف, حيث لاشيء في الأفق سوى الكلمات, يدل على رغبة صناع الحرب, بطي صفحة الحرب, واقفال الشرفة المطلة على جثثنا المتناثرة في الشوارع, وأجسادنا المتحركة كتوابيت في الأزقة والحارات!
أتابع المباريات, لأخطب ود اللامبالاة, وأعرف أن اللامبالاة عزيزة المنال, رغم أنها في أيامنا المغبرة هذه,أشبه بمروحة سقف بائسة يائسة في صيف ساخن طويل, إذ كيف يمكن لأي سوري أن يملك ترف أن يكون مسترخياً وغير مبال, في وطن يعيش مثل رغيف محروق وسط النار, منذ أكثر من سبع سنين!؟.
بل كيف يمكن للواحد منا, حتى وهو في سريره, ورغم ظاهر الاستقرار, أن يلتقي مع كل ما يحيط به من أشياء ألفها واعتادها, سواء كانت بشراً, حجراً, كتباً, جدراناً, سجائر ..الخ, سوى باعتبارها (سلفاً) لقاءات ثلثاها وداع, فكلنا الآن نعيش يوماً بيوم, ضيوفاً على وطن مزروع بالضباب والوحشة والترقب, ولكن كلنا ما نزال نصر على كتابة اسمه, عندما نُسأل عن “مقر الإقامة الدائم”, ونفخر أننا بعد سبع سنوات موت, ما نزال نكتب اسمه .
أتابع المباريات, وأتوهم اللامبالاة, بطريقة تستدعي الضحك, لأن صوت الرصاص ما زال في الأذن, يفترس بعد القلب, الليل والنهار, والقمر والشمس شاءت أن تركض فيهما مرئيات السنوات السبع المروعة, والرأس ميدان عزاء ينهض فيه كل يوم من قبور النسيان أحباؤنا الذين رحلوا ليتابعوا سرد حكاياتهم التي لم تكتمل, لأن أحلامهم مازالت طازجة كاملة, ولكن العمر لم يكتمل!
ينهضون في رؤوسنا كالمطارق, من وسط الدمار ورائحة الموت والخراب, ليسألوا عن قمر لم يكن متسخاً, ولم يكن قرصاً من الدم, بل كان مقر إقامة حبيباتهم, وعن ابتسامات لم تكن شاحبة, بل كانت فناراَ يضيء ليل الوطن, وعن حكايات وتراتيل جدات, وجرائد ونشرات أخبار الآباء “الطقوسية”, وعن ذاك النكد الجميل في وجوه أمهات قضين نصف العمر يتذمرن من المطابخ, ويسارعن في دخولها لأجل عيون الأحباء؟
ينهض الراحلون, يتجولون في الذاكرة مثل سكين, ويسألون, وهم الموتى عن حياتنا: أين النور, أين فلان, وما خطب الشوارع والجدران, ولماذا وجوهنا بائسة لامبالية, كرغيف الشعير؟ ونخشى وربما نخجل, أو ربما نخاف عليهم (رغم الموت) من الاكتئاب, أن نجيبهم أننا نموت بالتقسيط, وأن بؤسنا صار لقاحنا ضد الموت, والموت صار لقاحنا ضد الخوف, والمحتضر لا يملك إجابة عن الحياة أثناء احتضاره!؟
نخجل أن نجيب, وترحل من فمنا الكلمات, وآخر مظهر من مظاهر الحضارة (الدعة والاسترخاء) يلفظان أنفاسهما الأخيرة على كتف بنادق الإرهابيين, وها نحن نعود عصوراً عديدة إلى الوراء, لتخط واحدة مثلي, كانت كل حياتها تحد وأمل, سطورها بلا مبالاة, وتخشى أن تعود بالعصور إلى ما وراء الوراء, لتصبح الأبجدية (من جديد) حلماً يحتاج إلى اكتشاف أو اختراع!
نخجل أو نخشى أن نجيب على تساؤلات الأحباء المتجولين في رؤوسنا بلا جواز سفر, نخجل أن نجيبهم, بأن القرارات الدولية الممددة على طاولات مساج الفنادق الفخمة في جنيف, تفضل القاتل على القتيل, وأنها تحاول رسم جهات أربع جديدة لحدود الوطن, جهات أشبه بمخيمات اللاجئين, يصبح في ظلها, لزاماً علينا لكي نطمئن على أهلنا في قرانا, أن نحمل جوازات سفر!.
أتابع المباريات ببلادة, وأنتظر نتائج مونديال الوطن, الذي نحن فيه لاعبون رئيسيون, وأعلم أننا لابد فائزون, رغم كثرة الفرق اللاعبة على أرضنا, وخطورة اللاعبين, إلا أن خبرة التاريخ علمتني أن يسوع يصلب على يد الصهاينة منذ أكثر من ألفي عام, ولكنه رغم ذلك يقوم في كل عام, وبلادي ستقوم وستفوز, مثل مباراة البداية, خمسة/ صفر على من نال الصفر, وعلى مشجعيه وداعميه.