بابُ الورْد
د. نضال الصالح
وبصوتٍ لم يتّسع له المدى، فارتطم بي أشدَّ سِحْراً فيّ، صرختُ: “الله! الله!”. لم يكن بدٌ من أن أصرخَ، ولو لم أفعلْ لما كنتُ نجوتُ من الفتنةِ التي زهتْ، بغتةً، بنفسها وسْطَ قفْرٍ يضيقُ بنفسه حتى يضجَّ القفْرُ منه. قفْرٍ كانَ يحدقُ بي من الجهات كلّها. لم أكنْ رأيتُ مثلَه من قبلُ، ولا يمكنُ لي احتمالُ رؤيته من بعدُ إنْ لم تتصدّعِ الأرضُ، كما تصدّعتْ، ثمّ تنبتُ تلك الوردةُ نفسُها التي نبتتْ بغتةً وسْط القفرِ، فصارَ القفْرُ بها جنائنَ تغارُ من نفسها، وإن لم يرتّلِ المدى، كما ردّدَ، من فتنةٍ بها: “فإذا انشقّتِ السماءُ فكانت وردةً كالدّهان، فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان”.
كأنّها القيامةُ. كأنَّ اللهَ طوى السموات طيَّ السجلّ، فأعادَ الخلْقَ كما بدأه، ثمّ خلقه مرةً أخرى، فانشقّتِ الظلمةُ عن وردةٍ، ومن الوردة كانَ الماءُ والترابُ، فكانتِ الحياةُ. كأنّه الحشْرُ، كأنّه ولكن ما مِن سواي فيه، وكنتُ أدفعُ بأوّل خطوي إلى الصراط، وأتضرّعُ إلى الصراط نفسه أن يمضيَ بوردتي إلى باب الرضوان، فيكون لقاءٌ، ثمّ تكون حياةٌ. وردتي التي كانت السماءُ نذرتها لي، ثمّ كانَ ما كانَ من خُنّاسِ الإنْس، فكانَ قفْرٌ، ثمّ كانَ فراق.
كانت الوردةُ مولّهةً بالورد. كانت تمضي وقتاً طويلاً وهي تنضده، وتجمع بعضه إلى بعض، كأنّما تهندسُ روحاً لا تريد أن ينالها من اليباس شيء، وكنتُ أرمقها بعينين مفتونتين بها وبالورد، وأغنّي: “يا عاشقةَ الوردِ”، وكانت تتثنّى أبهى من راقصات المعابد الأولى، أو كأنّها خارجةً لتوّها من ماء الأساطير، ثمّ ترشقني بوردٍ من عينيها، وتهزجُ: “قَدُّ الرحيقِ حكى رشاقةَ قدّهِ، والوردُ يحسدُ وردَه في خدّهِ”، فأهزجُ مفتوناً بالصوت، والقدّ، والحاجبين، والخدّين، والورد: “يا رامياً عن لحظِ طرْفكَ أسهماً، تقبيلُ وردةِ وجنتيكَ شفائي. عجباً لطرْفكِ كيفَ دائي كامنٌ، فيه وثغرُكَ كيفَ فيه دوائي”.
وكنتُ أحكي لها عن نساء ومدنٍ يشبهنَ الوردَ. عن نساءٍ تشبهنَ المدنَ، ومدنٍ تشبهنَ النساء، وعن ذلك السلطان اليمانيّ الذي كانَ، قبلَ نحو سبعة قرونٍ خلتْ، اختارَ وردةً حمراءً على قماش أبيض شعاراً لدولته، وكانت الوردة نفسها شارة السنجقَ اليمانيّ في مواسم الحجّ. وكانت وردتي تضحكُ.. تضحكُ، حتى يشاركها الوردُ غبطةَ الرقصِ بضحكها، وكنتُ، وهي تضحكُ، أرشقُ وردَ خديّها بورد شفتيّ، فيتباسق وردٌ هو الوردُ كلُّه: الياسمين، والجوريّ، والحبقُ، والزنبقُ، والقرنفلُ، والأرجوانُ، والخزامى، والجلّنارُ، وشقائقُ النعمان، وعصفورُ الجنّة، و… وما لم تعرفِ الخليقةُ، وما لن تعرفَ.
ثمّ كأنْ لم يكنْ وردٌ، كأنْ لم تكنِ المدينةُ التي كانت ورداً. المدينةُ التي دنّسَ الظلامُ والغزاةُ وردَها، فكادتْ تستحيلُ إلى قفْرٍ. وكنتُ، على بُعْدِ وردةٍ منَ الوردِ، شائقاً، ومشوقاً، ومُستهاماً، وصبّاً، أحشرجُ بالاشتياق إلى الوردة التي كانت، وإلى المدينة التي كانت، وفيما أنا مضرّجٌ بوحشةِ القفْر، إذْ ينهضُ، في القفْرِ، بابٌ منحوتٌ في أعلاه: “بابُ الورْد”، ثمّ يتباسقُ في المدى المسفوح أمامي ورْدٌ ممّا عرفتِ الخليقةُ، وما لم تعرفْ، وما لن تعرفَ، ثمّ ينهمرُ الترتيلُ من كلّ مكانٍ: “ادخلوها بسلام آمنين”.