إنها حقاً لحظة التحول التاريخي
مع اقتراب شهور الصيف يزداد المشهد تعقيداً وقتامة وسخونة، ولربما ندخل على المدى المنظور والمتوسط نوعاً من الفوضى الإقليمية والعالمية. إن الخط البياني لسبعة أعوام من الحرب الطاحنة، حتى الآن، لا يمكن أن يتوقّف عند نقطة لا إحداثيات لها أو مجهولة، كما لا يمكن له أن يتبدّد في نوع من العبثية الهندسية. وليس علينا أن نصدّق أن الحرب في سورية، وعليها، لم تكن إلا نوعاً من الخروج الجماعي عن الطور، أو الحاجة إلى تصريف العنف الداخلي بعد عقود من ترف الاستقرار والأمن، إذ إن تطوّرات الوضع في سورية خضعت في الكثير من جوانبها – ولا يمكن إلا أن تخضع – للتطوّرات والموازين الدولية التي تعيش اليوم لحظة تحوّل وإعادة تشكّل حادة نظراً للرهانات المتضاربة والمتشعبة، وذلك انطلاقاً من حقيقة أن نظاماً عالمياً جديداً، ولربما عالماً جديداً، سوف يولدان من رحم هذه الحرب وما سوف يتمخض عنها من نتائج، علاوة على أن هوية المنتصرين والمهزومين سوف تعيد رسم منظومات العلاقات الإقليمية والدولية، وعلى قاعدة اعتبارات قد تكون، هذه المرة، أشد جذرية ودراماتيكية، وقد تطيح بأولوية الصراع العربي الإسرائيلي دون أن يعني ذلك أن الكيان الصهيوني قد حل أزمة وجوده، بل على العكس فسوف يعيشها في إطار معادلات أشد خطورة وتهديداً، ولربما كمعركة أخيرة ونهائية.
فرغم مرور سبع سنوات من الحرب، يبدو أن هناك أطرافاً لا تزال تعول على إمكانية العودة إلى نقطة الصفر، أو تخطط للعمل من نقطة بداية جديدة. ينطبق ذلك خاصة على سياسات واشنطن ولندن وباريس وأنقرة والرياض وتل أبيب، وفي ذيلها غالبية العواصم الإقليمية، وكأن قرار إطلاق الحل السياسي سيبقى معلقاً بانتظار المعركة التي لا تزال تلهب المخيلة – مخيلة الجميع – وتحفز عدوانيتهم وتغذي أطماعهم، و.. تكرر وتضاعف، في الوقت نفسه، انكساراتهم وخيباتهم. لقد غدت الحرب على سورية – وفيها – مشروعاً ينفتح على الحسابات السياسية الداخلية و”الشخصية” لقوى وأنظمة دولية وإقليمية عديدة، وينخرط فيه زعماء شعبويون، وأشباه رجال دولة، وسياسيون أصحاب سوابق تم تبييض صحائفهم الجنائية من خلال مكاتب محاماة معروفة، وهم أساساً وبال على بلدانهم وشعوبهم من قبل أن يكونوا وبالاً على هذا البلد الآمن. ولكن المفجع والكارثي حقاً هو أن هؤلاء يؤسسون، بمحدودياتهم وأنانياتهم، لصراعات مستقبلية قد تحرق الأخضر واليابس، وقد تزج بلدانهم – قبل غيرها – في صراعات وحروب لا نهائية. ينسحب ذلك على أردوغان للوهلة الأولى، حين يغدو تحريك القوات العسكرية مجرد أُلهيةً يمكن أن تروي الغرور الفردي وتشبع الحاجة لاصطناع العظمة، وإلا فكيف يمكن استيعاب كل هذا الكم من “الهبل” الذي يبرر المسارعة إلى إعلان معركة قبل أن تنتهي التي قبلها، وذلك الاستغلال الساذج لدور الضامن للانقلاب للاستيلاء بالقوة على أراضي الآخرين، بل والتصرف كقوة محتلة تفرض قوانينها الخاصة، وكل ذلك في أجواء من الشبهة والشك حول حقيقة الانتصارات المعلنة من طرف واحد ومداها، وقابليتها للاستمرار وسط إساءة تقديرات فادحة لهوية وقوة ومقاومة الطرف – أو الأطراف – المقابل، وما إذا كان ذلك إنجازاً سهلاً، أم تكتيك إغراق مدروس في ظل الانشغالات والأولويات القائمة!
لا يبدو الرئيس الأمريكي أفضل حالاً في ظل سياسات وأهداف تحمل طابع ردود الفعل والارتكاسات الشخصية أكثر مما تكوّن استراتيجية مدروسة ومتماسكة. والواقع، يتعين علينا الاعتراف بأن الولايات المتحدة تعمل ضمن إطار سياسة “يوم.. بيوم” في سورية، ولربما في الشرق الأوسط والعالم كله، وأن أصدقاء ترامب المفترضين في المنطقة هم – وحتى إشعار آخر – ألد أعدائه المحتملين، وقد يكونون الأكثر أهبة واستعداداً للتملص منه أو الانقضاض عليه في اللحظة الداهمة: إنه مرهق ومتطلب – والأنكى أنه غير موثوق – وهم شركاء عاجزون اتكاليون أدمنوا حضانة الأمريكية وصلت أمس درجة الإعلان عن الانسحاب من مجلس حقوق إنسان لطالما شكل أحد أسلحتها الدبلوماسية، ولا لشيء إلا من أجل نتنياهو.
نتنياهو اليوم صورة ناصعة للاستقواء الأجوف والعجز والتخبط، ولتعاسته فقد كان آخر ما يحتاجه أن يكتشف أنه جلس طويلاً، على طاولة الحكومة، إلى جانب “عميل” إيراني كان يتابع بالتفاصيل ملحمته الدونكيشوتية ضد ملف “آيات الله” النووي. ولن نتحدث عن العاهل الأردني والسياسة الخارجية المحررة بشيكات البترودولار، ولا عن الانفصاليين شرق وشمال الفرات الذين راحوا “فرق عملة” ببساطة لم تكن حتى متخيلة، فيما الجيش العربي السوري يتقدم في الجنوب وفي البادية السورية وهو ماض حتى تحرير كامل تراب الوطن.
كل مظاهر الاستقواء المزيف لن تخفي حقيقة أن تحالف العدوان يستمر اليوم بطاقة التناهشات والاقتطاعات المتبادلة، وأن أول خسارة جدية سوف تطلق متلازمة من الانهيار والتفكك والتآكل. إنها حقاً لحظة التحول التاريخي التي تتمظهر فيها القوة السياسية والميدانية والمجتمعية كطاقة كامنة ومختزنة ومتراكمة عبر العقود الماضية، لتنفجر، بلا رجعة، وقائع انتصارات في خط بياني مستمر ومتصاعد.
بسام هاشم