تخيلات بسيطة أو صغيرة
في عام 2007، نشر الكاتب الفرنسي ريجيس جوفري مجلداً ضخماً بعنوان “Microfictions” يجمع فيه 500 قصة قصيرة بمقدار صفحة أو صفحتين لكل واحدة، وحصل وقتها على الجائزة الأدبية الفرنسية “Télérama”. وبعد إحدى عشرة سنة يكرر الفرنسي التجربة ذاتها بـ500 قصة جديدة تحمل نفس التكوين الأدبي وتعداد الشخصيات والأصوات، وسطور قليلة للغاية لا يسمح للقارئ بأن يغوص في قلب الحياة فقط، وإنما أن ينظر للكون بأكمله الذي يعج بالطباع المختلفة، ومن ضمنها يسأل: “إذا كانت الحياة مستمرة، فبالتأكيد يستطيع الكاتب خلق الكثير من الشخصيات بنفس الوتيرة”.
استلهم جوفري قصصه الجديدة من الحياة وجمعها في كتاب يحمل عنوان “microfictions 2018”، ويقول فيها: هناك بالتأكيد أشياء كثيرة وغريبة تقع وراء الأبواب والنوافذ المُغلقة، وهناك أيضاً مناطق تبقى في حياة الناس تثير الفضول”، يحاول هو بدوره تخيلها دون أي قيد وحواجز أخلاقية أو اجتماعية، وبالنسبة له التقاط تلك الومضة هي التي تعطي للقصة نكهتها الخاصة وتمنحها بعض التميز، فهو يتناول قصص الحياة اليومية والأحداث العادية التي تزخر بها الساعات، بالإضافة إلى قصص عن العائلة والحياة الزوجية وحياة المكتب في العمل وقصص تدور في المقاهي والشوارع والمطاعم، والمميز في المجموعة أن شخصيات هذه القصص متنوعة فهناك الأزواج والأمهات والشباب والشيوخ والأطفال، يركز جوفريه من خلالها على الجانب السلبي والشرير في النفس الإنسانية والحالات العبثية التي تجعل المرء يتحول من الشيء إلى نقيضه، وأن هناك أموراً مبهمة تجعل الإنسان مجرماً أو أن يتخذ قرار قتل حبيبه أو حبيبته، بالإضافة إلى الانحطاط الاجتماعي والسخط الأبوي والبؤس الجنسي والعنف الأسري وحوادث الطرق والانتحار، بالـتأكيد هناك دوافع غامضة لا تفسر كيف يقرر شخص ما وضع حد لحياته أو اختيار مصير مرعب رغم أنه يعيش حياة سعيدة وفيها كل مستلزمات النجاح، إلا أن الكاتب لجأ إلى السخرية والدعابة السوداء في القصص التي سردها في الكتاب وهذه طبيعته منذ أن بدأ الكتابة.
تتعلق شخصيات “microfictions 2018” بالمواقف القاسية التي يضع فيها الشخصيات أنفسهم بها ويمكن القول أنها “المصالح” فهو لا يجنّب المرأة أو الطفل من حالة التحول إلى نوع بشري بلا دم وعديم الضمير، وغالباً ما يُضرب اليتيم تحت الحزام، حيث يقارن الكتاب بين الحياة العادية والظاهرة في ذات الوقت من خلال لمس قاسٍ ووحشي على سبيل المثال مأساة زوجين طفلهما مصاب بالتوحد، والحياة اليومية للمعلم الذي خاب أمله من تلاميذه، وهلوسات بسبب استخدام التقنيات الرقمية، والبرجوازية وغيرها من القصص.
تتميز نصوص المجموعة للفرنسي ريجيس جوفري بنوع من التوتر والتشويق الداخلي فعناوين القصص تبدأ بجمل قصيرة مثل “لم يتركها”، “مرت العقود”، “كنت في الخمسين”، “لن يجعلني أبداً طفلاً” ثم تستمر لتأخذ عناوين بجمل طويلة مثل “أرجوحة رأسي إلى الخلف”، “رأيت السماء الزرقاء واضحة لامعة مثل واحدة من تلك لوحات الحلوى”. في الواقع، هكذا هو جوفريه يتأرجح بأسلوبه الخاص وكتابته الشاعرية حتى يظن القارئ أنه أقرب إلى مؤلفي القرن الثامن عشر مثل عوالم بودلير، وربما هذا ما جعل مجموعته الجديدة مثلها مثل السابقة على الرغم من تعددها وتكرار نفس المواضيع إلا إنها متعة حقيقية للقراءة.
صدرت المجموعة القصصية عن دار “غاليمار” للنشر، وفي أحد تصاريح الكاتب قال جوفريه: “أنا أكتب مجموعتي انطلاقاً من الخيال، وأشعر بحرية كبيرة عندما أسبح في الخيال حيث أصنع شخصيات وعوالم وأحداث ليست مستوحاة من الواقع بالضرورة، فالخيال يمنح الحرية والحرية تشحن اللغة بمجازات واستعارات جديدة، والخيال بعكس الإرهاب يمنح اللغة فضاءات جديدة، والديكتاتوريات تخنق اللغة كما هو معروف وتضيق عليها وتخنقها، واللغة بالنسبة لي هي الهاجس الأهم عندما أشتغل على الكتابة، واللغة الفرنسية تزخر بإمكانيات هائلة للتعبير عن النفس ووصف الأحاسيس حتى تلك الأكثر تعقيداً”.
مجموعة “Microfictions كتاب استثنائي تم إيراد النصوص فيه بالترتيب الأبجدي، وريجيس جوفريه واحد من أهم الكتاب الفرنسيين حالياً، ويتمتع بشعبية كبيرة رغم أنه لم يفز حتى الآن بأي جائزة كبيرة في مستوى جودة إنتاجه.
جمان بركات