الاتحاد الأوروبي.. اندماج بطيء
عناية ناصر
لم تنل مشكلة إيطاليا مع الاتحاد الأوروبي، والتي أكدت بشكل عام عدم وجود أي اتحاد مالي واقتصادي حقيقي، أي انتباه أو نقاش في التقارير والتحليلات الإخبارية.
ويرى الكثير من المحللين الاقتصاديين والماليين أن الاتحاد الأوروبي على وشك الدخول في حرب أهلية نقدية من المحتمل أن تؤدي إلى تفككه وإنهاء اليورو، ويجزم هؤلاء بأن السياسيين في روما سيلقون بالمسؤولية على عاتق الإيطاليين ورجال المصارف معتبرين أن الخطأ تتحمله الطبقة السياسية الإيطالية.
ويشير المحللون إلى أن الولايات المتحدة تمتلك آلية تبادل مركزية للتحويلات المالية منذ أكثر من قرن، وأن ذلك يشمل مركزا خاصا لتبادل المعلومات في كل مدينة منذ القرن التاسع عشر، قبل أن يصبح كل ذلك جزءا من نظام الاحتياطي الفيدرالي بعد عام 1913، الأمر الذي زود الاقتصاد الأمريكي بطريقة سلسة لتسوية التحويلات من منطقة إلى أخرى.
في الجهة المقابلة، يبرهن عدم وجود آلية تبادل مركزية، في أوروبا، على عدم اكتمال الاتحاد الأوروبي. وبمرور الوقت، فرضت الدول الأعضاء الكبيرة نظاما للائتمان على بقية دول الاتحاد الأوروبي، وخاصة على الأنظمة المصرفية في الدول الأضعف. وعلى سبيل المثال، تمول البنوك الألمانية والفرنسية تعويم المدفوعات داخل الاتحاد الأوروبي بالنسبة لدول أوروبا الجنوبية – إيطاليا وإسبانيا واليونان – لتصل إلى نحو تريليون دولار في اليوم،الأمر الذي يعني، من الناحية السياسية وكذلك المالية، أن دولا مثل إيطاليا قد تشلّ بنوك بلدان شمال أوروبا. وهكذا عندما تطالب الحكومة الائتلافية اليمينية اليسارية الغريبة، وحركتي “خمس نجوم” و”رابطة الشمال”، بتسديد الديون، فليس لدى المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل خيار آخر. إن التخلف عن السداد وخروج اليورو من إيطاليا قد يتسبب في أضرار بالغة للبنوك في جميع أنحاء أوروبا، ولكن السماح لرابع أكبر اقتصاد في أوروبا بالبقاء في حالة عدم استقرار أمر غير مقبول.
لم يكن هناك أي شرط عند إنشاء الاتحاد الأوروبي في ماستريخت قبل عقدين من الزمن لإجراء عمليات تبادل معلومات دورية بين الدول، لأن مؤسسي اليورو أرادوا تجنب المسألة الصعبة سياسيا، والمتمثلة في تأسيس اتحاد للديون في البداية. وبدلا من ذلك، مضت دول جنوب أوروبا إلى الأمام وأسهمت بعضويتها في الاتحاد الأوروبي بخلق كومة من الديون الوطنية. ومن خلال دعم الاتحاد التجاري والاقتصادي، قدمت دول الاتحاد الأقوى، مثل ألمانيا وبريطانيا وفرنسا، دعمها الائتماني لبلدان جنوب أوروبا.
تم إنجاز الاتحاد المالي في أوروبا على نحو فعال، لكن لم يتم الاعتراف به سياسيا من قبل ميركل وماكرون. وكان من المفارقات الملفتة أن محرك المرحلة النهائية من “المال الحقيقي”، هو مشتريات الديون من قبل ماريو دراجي، رئيس البنك المركزي الأوروبي (ECB)، فمن خلال شراء كميات هائلة من الديون العامة والخاصة، قام البنك المركزي الأوروبي، والاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، وبنك اليابان، بفتح صندوق باندورا بشأن إعفاء البنك المركزي من دين القطاع العام. وعلى سبيل المثال، طالبت الإصدارات المبكرة من برنامج حركتي “خمس نجوم” و”رابطة الشمال” البنك المركزي الأوروبي بإعفاء إيطاليا من الديون السيادية المترتبة عليها.
لكن هناك تهديدات أخرى، فإذا تقدمت إيطاليا بخطط حركتي “خمس نجوم” و”رابطة الشمال” لإصدار شكل جديد من السندات كعملة موازية، فمن المحتمل أن أيام روما المتبقية داخل منطقة اليورو ستكون معدودة. وللحيلولة دون مثل هذه الخطوة المتطرفة، من المحتمل أن تُضطر بقية دول الاتحاد الأوروبي إلى تقديم نوع من التسهيلات المالية لإيطاليا. وقد اقترح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون – ويا للمصادفة – إنشاء “صندوق نقد أوروبي” للسماح لأوروبا بتأكيد “سيادتها الاقتصادية”.
وليس من المستغرب أن تدعم المستشارة الألمانية ميركل فكرة إنشاء صندوق نقد أوروبي، شرط أن يكون للحكومات الوطنية “رقابة كافية” عليه، وهذا يعني أن إيطاليا ستحتاج إلى الموافقة – على غرار صندوق النقد الدولي – على أي شرط يتعلق بالإصلاحات الاقتصادية والسداد مقابل أي قروض جديدة لمدة 30 عاما. وإذا لم يستطع الإيطاليون التوافق مع ميركل، فإن بديلهم هو اتخاذ إجراءات جذرية جديدة لتعزيز الإنفاق وربما المزيد من الانتخابات.
وحول خطة إنقاذ لإيطاليا، قالت ميركل في وقت كان التماسك بين أعضاء الاتحاد الأوروبي مهما: “لا ينبغي أن يؤدي التضامن بين شركاء اليورو أبدا إلى اتحاد لتقاسم الديون، بل يجب أن يكون لمساعدة الآخرين على مساعدة أنفسهم”. وكما كما تقول صحيفة “هاندلسبلات”، فقد أدلت المستشارة الألمانية بهذه التصريحات عندما سئلت عن تقرير لوسائل الإعلام بأن حركتي “خمس نجوم” المناهضة للمؤسسة في إيطاليا و”رابطة الشمال” اليمينية المتطرفة خططتا كي تطلبان من البنك المركزي الأوروبي إلغاء 250 مليار يورو (296 مليار دولار) من الديون الإيطالية”. وهذا يعني أن ميركل يجب أن تسمح بتقديم المزيد من الإعانات والديون لإيطاليا، لكن حزب يوروستسيكي (AfD) البديل من أجل ألمانيا بدأ بمهاجمة ميركل لتحميلها مسؤولية ديون الدول الأخرى لدافعي الضرائب في ألمانيا، ومع ذلك فإن فكرة ماكرون هي بالضبط تحويل صندوق إنقاذ الاستقرار الأوروبي (ESM) في منطقة اليورو إلى صندوق النقد الأوروبي (EMF) مع صلاحيات لإعطاء الأعضاء المتضررين من الديون السيادية خطوط ائتمان قصيرة الأجل.
لكن ومع مرور الوقت فإن ناقوس الخطر يدق في إيطاليا، حيث يكتب مايكل سبنس من جامعة نيويورك والحائز على جائزة نوبل: “بخلاف معظم بلدان منطقة اليورو، فإن النمو الإسمي في إيطاليا (غير المعدل حسب التضخم) ضعيف للغاية، بحيث لا يمكن أن يؤدي إلى تخفيض كبير في الدين، حتى بأسعار الفائدة المنخفضة في الوقت الحالي. وهكذا فإن ارتفاع أسعار الفائدة الإسمية سيؤدي بالتالي إلى ارتفاع نسب الديون ويزيد من التقييد المالي للحكومة، مع التأثيرات العكسية السلبية للنمو والعمالة. وبخلاف معظم بلدان أوروبا، لا يزال الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للفرد في إيطاليا أقل بكثير من ذروته، عام 2007، قبل الأزمة، ما يشير إلى أن استعادة النمو لا تزال تمثل تحديا رئيسيا”.
في الواقع، فإن حقيقة وضع حركتي “خمس نجوم” و”رابطة الشمال” طلب الإعفاء من الديون وتسهيلات السيولة – على غرار الأرجنتين – على طاولة البنك المركزي الأوروبي تقول الكثير عن الوضع المالي الحقيقي في إيطاليا وفي جميع أنحاء جنوب أوروبا.
بعد مرور عام فقط على عمليات الإنقاذ التي تدعمها الدولة، والبالغة 6 مليارات دولار لبنك إيطاليا المركزي – وهي جزء من خطة إنقاذ بقيمة 20 مليار دولار باركها الاتحاد الأوروبي – يبدو أن الدولة الإيطالية نفسها قد تتطلب الإنقاذ، الأمر الذي يتطلب استثناء آخر للقواعد المالية للاتحاد الأوروبي. وبالتالي، فإن الاندماج البطيء للاتحاد الأوروبي يجري على قدم وساق، لكن تسويق هذه الحقيقة للناخبين خارج إيطاليا – في ألمانيا وفرنسا – قد يكون مسألة أخرى.