التصعيد الأمريكي في مواجهة إيران.. إلى أين؟
د. سليم بركات
ثمة تصعيد أمريكي في مواجهة إيران يتجه نحو الذروة، بعد الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي بين إيران و5+1، وهو تصعيد شكّل هاجسا للمنطقة والعالم، وكأن الحرب على إيران قد أصبحت قاب قوسين أو أدنى، وهي حرب إذا ما تفجّرت على صعيد المنطقة قد تمتد لتصبح على صعيد العالم.
ما نسعى إليه في هذا المجال هو توضيح مضامين هذا التصعيد الأمريكي، ومن لفّ لفّه ممن جعلوا أنفسهم في مواجهة إيران على الصعيد العسكري والسياسي قبل الانتقال من مرحلة هذا التصعيد الإعلامي المهووس، إلى مرحلة العمل العسكري الواسع والمفاجئ، والذي فيما لو حدث سيكون مُركزا على القدرات العسكرية والبُنى الاقتصادية للدولة الإيرانية. ومع أن الولايات المتحدة الأمريكية مازالت تُخفي حجم التحضيرات للعدوان على إيران تحت شعار تفادي الحرب، إلا إنها تحاول تطويق ردة الفعل الإيرانية، وتسعى إلى عزل إيران بكل الوسائل، حتى لا يستمر هذا العدوان سوى لأيام قليلة إن لم يكن لساعات.
وقد تستبعد الأسلحة الأمريكية النووية في هذا العدوان، والسبب أن قيمتها العسكرية ستكون محدودة، وإن كانت تأثيراتها البشرية، والسياسية، والبيئية، باهظة ومدمرة حتى لحلفاء أمريكا في المنطقة، الأمر الذي يؤكد الاعتماد على الجهوزية العسكرية الجوية والبحرية كقوة معمول عليها ومن خلالها. أما فيما يخص القوات البريّة المشاركة فسيكون الاعتماد الأمريكي في توفيرها على حلفاء أمريكا في المنطقة، وفي الطليعة إسرائيل والسعودية، إضافة إلى المجموعات الإرهابية المعتمدة والمصنّعة أمريكيا، وإسرائيليا، ورجعيا.
وتشير كل الدلائل إلى أن إدارة ترامب تعمل بكل وسعها للإطاحة بالنظام السياسي القائم في إيران، وهذا الأمر واضح من خلال التصريحات النارية للمسؤليين السياسيين والعسكريين الأمريكيين تجاه إيران، بحجة دعمها للإرهاب والتدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، كما هو واضح من تهديدات ترامب للقيادة الإيرانية وعزمه في أن لا يترك مواجهة إيران لرئيس يليه. تصعيد لا يشمل إيران وحدها، وإنما يشمل محور المقاومة الممتد من إيران حتى فلسطين عبر سورية ولبنان.
المعلومات المسرّبة من الداخل الأمريكي تشير إلى أن الحرب مع إيران قائمة، ومعدّ لها استراتيجيا، منذ عهد جورج بوش الابن، وإن اللجنة التي وضعت خطتها كانت برئاسة ديك تشيني نائب الرئيس حينذاك، لكن الأمر بقي في إطار الكتمان تمهيدا للتعبئة للحرب؛ ولأنها تنضوي على مخاطر شديدة في عالم التخطيط الحربي، فقد تمّ تأجيلها لوجستيا، بسبب عدم التمكن من التحطيم الحاسم للقدرات الإيرانية بالشكل المطلوب أمريكيا، بل يبقى من القدرات لدى إيران ما يمكنها من الصمود في مواجهة العدوان، ومن إغلاق مضائق هرمز، وتقديم الدعم العسكري التقليدي إلى حلفائها في المنطقة، ممن سيقفون إلى جانبها بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وهذا بدوره يؤدي إلى زعزعة المكانة الأمريكية الدولية، ويهز مضاجع حلفاء أمريكا في المنطقة وفي الطليعة إسرائيل.
المتتبع للسياسة الأمريكية يجد أن من أولويات هذه السياسة، منذ قيام الثورة الإسلامية في إيران وحتى يومنا هذا، تغيير النظام السياسي في إيران، كما يجد أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة حتى إدارة الرئيس ترامب لن تتوانى عن أن تستخدم كل الوسائل العسكرية وغير العسكرية، للتضييق على إيران بغاية إخضاعها، وتحويلها إلى دولة ضعيفة لا حول لها ولا قوة. وكل ما يفعله ترامب هو تفعيل لهذه الأولوية التي تستهدف إيران بحجة منعها من أن تصبح دولة نووية، وهو استهداف فيما لو حصل من خلال العدوان العسكري المباشر على إيران، فإنه سيتناول مواقع أسلحة الدمار الشامل المفترضة، وما يصاحبها من دفاعات من وجهة النظر الأمريكية، وبالمقابل سيكون الردّ الإيراني عنيفا، بحيث يجعل من منطقة الخليج ساحة للقتال يتوقف من خلالها تدفق النفط، وتدمّر البُنى التحتية لصناعته، وبالتالي سيكون إطلاق الصواريخ على مجمل دول الخليج، وعلى القواعد الأمريكية في المنطقة، وسيرافق ذلك الهجوم على إسرائيل من قبل محور المقاومة، لأن إسرائيل ستكون شريكا في هذا العدوان على إيران، الأمر الذي سيؤدي إلى زعزعة استقرار المنطقة، ويحولها إلى ساحة حرب مدمّرة بكل ما تحمل الكلمة من معنى.
التصعيد الإعلامي الأمريكي، والاستعدادات العسكرية المترافقة معه، يشير إلى أن احتمالات حدوث مثل هذه الحرب قائمة، لكنها مازالت بعيدة، كما تشير إلى وجود مجموعة من الاحتمالات الأخرى تنفي فكرة قيام مثل هذه الحرب، منها أن تتخلى إيران عن جميع طموحاتها النووية السلمية، إلى جاب تخليها عن برامجها الصاروخية البالستية، وهذا ما لا يقبل به الشعب الإيراني ولا تقبل به قيادة الثورة الإيرانية بأية صورة كانت، ومنها أن ينجح الاتحاد الأوروبي في تسوية ترضي إيران، والولايات المتحدة الأمريكية، وإسرائيل، وهذا متوقف على الجهود التي يبذلها هذا الاتحاد في السر والعلن، لأن له مصالحه في هذه التسوية، ومنها احتمال فشل العدوان فيما لو حصل بسبب العوائق العسكرية الإيرانية التي تبلغ من الضخامة والتعقيد ما لا يسمح بأي هجوم أمريكي ناجح على إيران، ومنها أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تمتلك السيطرة الكاملة على جميع أوجه هذه الحرب، ولا تدرك خواتيمها، وإلا لما كان هذا التأخير الأمريكي في هذه الحرب التي كان التحضير لها منذ عهد جورج بوش الأب، واستمر في عهد كلينتون، وبلغ الذروة في عهد جورج بوش الابن، واستمهل في عهد أوباما، وهو يتسارع اليوم في عهد ترامب.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل تمتلك إدارة ترامب اتخاذ مثل هذا القرار المغامر؟ وإذا ما اتخذته، هل تمتلك القوة الكافية للحؤول دون وقوع فوضى تؤثر بشكل مباشر على تواجدها، وعلى تواجد عملائها على رأس السلطة في المنطقة؟
للإجابة عن هذا السؤال، لابد من أن نأخذ بالاعتبار مجموعة من الملاحظات، منها أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تمتلك القوة اللازمة لمهاجمة إيران برّا وجوّا وبحّرا، وإذا كانت تمتلك هذه القوة بحّرا وجوّا فإنها لا تمتلكها برّا حتى تزجّها في الخطوط الأمامية لهذه الحرب. إن ما تمتلكه الولايات المتحدة الأمريكية في هذا المجال محدود، وهو يتماشى مع حرب قصيرة الأمد تتوخاها أمريكا، وليس مع حرب طويلة الأمد تتوخاها إيران ولا ترغبها أمريكا، ومنها: أليس بإمكان الإيرانيين أن يخفو نشاطهم العسكري في أنحاء لا يمكن الوصول إليها في بلدهم الشاسع، والمرجح أن الأمر كذلك، إذ من الصعب الوصول إلى كافة المناطق العسكرية على امتداد الأرض الإيرانية، ومنها: أليس بإمكان الإيرانيين جلب المتاعب لإسرائيل المتحمسة لهذا العدوان، وبالتالي ألا تجلب الضغوط العسكرية الأمريكية على إيران الكثير من المتاعب لأمريكا، ولاسيما إذا كان الوجود الإسرائيلي مهددا برمته من قبل إيران وباقي محور المقاومة، المدعم من روسيا والصين، والممتد من إيران وحتى فلسطين عبر سورية ولبنان، ومنها أيضا أنّ القوات المسلحة الإيرانية تتمتع بالخبرة العسكرية المستمدة من الحرب الطويلة في المنطقة، والتي فجرتها أمريكا وحلفاؤها في الماضي القريب، وهذا يعني تمتع إيران بخبرات وخيارات عسكرية تمكنها من شنّ هجمات صاروخية مضادة على إسرائيل، وعلى القواعد الأمريكية في المنطقة وعلى امتداد دول الخليج من الكويت إلى البحرين، ومنها أنّ التقدم باتجاه طهران عاصمة إيران هو جزء من هذه الحرب، فهل بإمكان القوات العسكرية الأمريكية البرّية التقدم في هذا الاتجاه المستعصي والمستحيل؟ هذا إذا ما إضفنا التكاليف الباهضة لهذه الحرب في ظل الركود الاقتصادي الأمريكي، والعجز الذي تعانيه الميزانية الأمريكية منذ سنوات، وربما ازدادت هذه التكاليف خلال الحرب، بقطع النفط، مُعرضة الدولار الأمريكي إلى الكثير من الأضرار، والأهم من كل هذا: هل سيسمح الرأي الأمريكي وقوع مثل هذه الحرب التي تهدد مصالحه، ومصالح حلفائه في المنطقة؟
من خلال هذه الملاحظات يبرز الجواب على السؤال المطروح، وعند الإجابة تصبح التهديدات الأمريكية السياسية والعسكرية لإيران كـ “سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء”، وهذا يعني أن الحرب ستبقى على ما هي عليه الآن، وهذا ما يتوافق مع سياسة ترامب الابتزازية، التراجعية، التي يعتقد من خلال ممارستها أنه يستطيع تحجيم المطامح الإيرانية لتصبح في حدودها الدنيا المتلازمة مع الرغبات الأمريكية. ولا شك أننا في عصر النفاق الأمريكي المستمر، تحت شعار مواجهة الإرهاب، والقادم أعظم.