تراب الماس.. حين يكون الشر طريقاً للوصول إلى الخير
في روايته “تراب الماس” التي يمهد لها بالقول: “أظلم الأوقات في تاريخ الأمم هي الأوقات التي يؤمن فيها الإنسان بأن الشر هو الطريق الوحيد للخير” يعرض الكاتب أحمد مراد للأوضاع في مصر ما بين الأمس واليوم، ويطرح من خلال أحداثها سؤالاً مثيراً للقلق حول حتمية اللجوء إلى القتل والجريمة سبيلاً للوصول إلى الحق، وهل يمكن تبرير العنف حين يكون موجهاً لمحاربة الفساد في المجتمع؟ بينما في حالة الرواية السؤال الأكبر الذي يشغلك: أين اختفت المؤسسات حين تكفل الأفراد بإقامة العدل بعيداً عن عين القانون!.
تبدأ أحداث الرواية في العام 1954 في الجميلية بالقاهرة، وقد خيم الحزن على منزل آل الزهار ودخل الأبناء حسين وإخوته في حال من الانهيار إثر موت والدهم الحاج حنفي المفاجئ.
تتوقف الأحداث عند هذا الحد لتنتقل مباشرة إلى العام 2008، إلى محيط صغير في حي الدقي بالقاهرة، حيث المكان هو مجتمع “طه” بطل الرواية المتخرج من كلية الصيدلة والذي يقيم في المنزل مع والده المقعد “حسين الزهار” وقد تركته زوجته على اعتقاد من الابن بأنها لم تقدر على التعايش مع حالة الأب الصحية. في ذات المبنى تقيم “سارة” الصحفية والناشطة والتي تشارك في التظاهرات حين يلزم الأمر، وفي مقابل المنزل الصغير تقع فيلا السيد برجاس الفخمة، وحيث الصيدلية التي يعمل فيها ليلاً لزيادة دخله إذ يعمل مندوباً لبيع الأدوية نهاراً، الأمر الذي يضعه وجهاً لوجه مع فئات متنوعة من الناس، من أطباء وصيادلة، أشخاص عاديين أصحاء ومرضى، وأيضاً مجرمين ومدمني عقاقير ومخدرات وغيرهم.
وما بين الأسلوب السردي أحياناً والحوارات القصيرة التي غالباً ما أتت بلغة عامية تترك أثرها السلبي على قارئ من خارج بيئتها وتتخللها بعض الألفاظ السوقية، يشكل أحمد مراد روايته ويبني أحداثها كي يوصل إلى القارئ صورة واضحة عن شخوصها بدءاً بالأب الذي درس التاريخ والتحق بالجيش ثم اضطر للتقاعد المبكر نظراً لوضعه الصحي، ما جعله يميل إلى التأمل والتفكير الصوفي البسيط والمبطن حين يشير إلى علاقة طه المتأرجحة بسارة، وبشكل خاص عندما يجره الحديث بشكل أو بآخر إلى جاره اليهودي بعد أن اكتشف خيانته، أو حين يحكي كيف علم بالمصادفة أن صديقه الأقرب إليه كان يعمل في تجارة المخدرات.
تسير أمور “طه” بشكل اعتيادي وروتين يومي مابين الصيدلية وزبائنها، وما بين عيادات الأطباء الذين يبرمج زياراتهم بشكل يومي، إلى أن يأتي الحدث الذي يخلخل نظامه الحياتي بشكل كامل عندما يتعرض ووالده لمحاولة قتل يكون الأب المقعد ضحية سهلة لأحد الأزلام التابعين لرجل الأعمال الفاسد بعد أن واجهه بمعرفته عن الكثير من ممارساته اللاأخلاقية، سيبدأ “طه” بعدها الدوران في دوامة مكاتب التحقيقات وروتينها، خصوصاً وأن القضية أحيلت إلى “وليد سلطان” الذي لديه من الأسباب العديدة ما تدفعه لتمييع التحقيق وأخذه إلى متاهة لا مخرج لها، وبعد ثلاثة أسابيع يعلم طه: “مصادفة بشأن حفظ قضية والده ضد مجهول لعدم وصول التحقيقات إلى نتيجة، لم يستطع ابتلاع المسمار الصدئ الذي انحشر في حلقه، كما لم تسفر زياراته الملحة إلى القسم عن شيء يرضيه، فبكى كما لم يبك وقت الوفاة، كأن والده قتل مرة أخرى”.
هكذا يشعر طه بأن الأبواب أقفلت في وجهه إلى أن يقع أمر ليس بالحسبان ويجد أوراقاً سرية تخص والده يعترف فيها الأب بامتلاكه مادة “تراب الماس” كان حصل عليها من جاره اليهودي الذي يستخدمها لتلميع القطع الذهبية بشكل أساسي، بينما ذكر أمامه في إحدى المرات كيف استخدمها للتخلص من قطة ابنته المزعجة، وفي الأوراق أيضاً تتكشف حقيقة الأب حسين الزهار ويعترف كيف لجأ إلى تلك البودرة السحرية أحايين عديدة، فقضى بواسطتها على جاره حين عرف بعمالته للإسرائيليين، وكانت وسيلته للتخلص من صديقة زوجته سيئة السمعة التي لم تقبل الابتعاد عنها، ليتضح لطه أن معرفة الأم بجرائم أبيه هو السبب خلف رحيلها عن البيت.
هنا تدور الفكرة في رأس “طه” وينشغل في البحث عن سلاح والده السري، ليبدأ رحلة الانتقام لمقتله، بدءاً بالبلطجي المدعو “سرفيس” ليخوض رحلة أخرى يكتشف فيها حقيقة المجتمع الذي يعيش فيه من زيف وفساد ورشاوى وخيانات، إذ هاهنا “برجاس” الذي انتقل بواسطة نفاقه من كونه رجال الملك فاروق إلى تأييد الثورة في العام 1952، صاحب حظوة ومكانة في كل مرحلة أتت بعدها، هنا أيضاً سيدة الأعمال ونجمة المجتمع كما كان يحلو للبعض تسميتها، تلك التي تنادي بالقضاء على الرذيلة وظاهرة أطفال الشوارع بينما تدير في الخفاء أكبر شبكة لبنات الهوى في القاهرة، ثم هناك الفتوّة “عماد” الذي يُطبِق بقبضته على أهالي منطقته، يدير العمليات الانتخابية فيقبض الرشاوى ويفرض الأتاوات على الجميع.
وحين يقع هو تحت رحمة السيد “وليد السلطان” ويبدأ الأخير ابتزازه ثم يوظفه للتخلص من غريمه برجاس، مقابل تأمين سفره إلى الخارج، سيكتشف بالمصادفة بينما يتحضر لمغادرة الإسكندرية أن وليد هو البذرة الأولى للفساد وسبب كل تلك الجرائم والأهم مقتل والده، ما يكون دافعه للعودة برغم أنه بات من المطلوبين، هكذا سنشهد عودة “طه” إلى الحي ليضم “السلطان” ضحية جديدة إلى ضحايا البودرة السحرية تراب الماس.
إضافة إلى التساؤلات التي أثارتها الرواية التي حققت أرقاماً قياسية في المبيعات وتمت ترجمتها إلى عدد من اللغات وتم تحويلها إلى فيلم سينمائي يحمل الاسم ذاته، تضعنا طبيعتها البوليسية أمام التساؤل عن تصنيف هذا النوع من الأعمال والتي تعتمد الجريمة، ما بين الأدب الصرف أو أنها تعد مجرد رواية البوليسية برغم الإسقاطات الممكنة، وهل تغيرت الفكرة التي طالما التصقت بالقصص البوليسية بأنها أعمال مسطحة لا تمتلك عمقاً كافياً لتكون في عداد الأعمال الأدبية، بل هي وسيلة تتناسب وقتل أوقات الفراغ، بينما لجأ إلى هذا الأسلوب العديد من الروائيين الكبار في الغرب وفي العالم العربي على السواء، فحققت لهم المزيد من الشهرة، أو أنها كما أشار صاحب الرواية في أحد حواراته أن “توظيف الجريمة في الأدب أشبه بتغليف الفكرة الاجتماعية بالإثارة” وهو الأمر الذي ينشده الكثيرون طلباً لتحقيق الانتشار وزيادة المبيعات.
يذكر أن للكاتب إلى جانب “تراب الماس” عدداً من الروايات منها فيرتيجو التي تحولت إلى مسلسل تلفزيوني، ورواية “1919” و”الفيل الأزرق” التي حظيت بشهرة واسعة وكانت موضوعاً لفيلم سينمائي وأكثر من عرض مسرحي.
بشرى الحكيم