دراسة رسمية تطرح خياراً يصوب العملية التسويقية لمنتجاتنا الزراعية “الزراعة التعاقدية” تخفض المخاطر السعرية وتضمن استقرار انسياب المواد الخام لمصانع الأغذية
دمشق– حسن النابلسي
ثمة مبررات تدفع بالتوجه نحو تطبيق الزراعة التعاقدية المتمثلة بأن يتم الإنتاج الزراعي “الخام والمصنع” وفق اتفاق بموجب عقد بين المشتري كطرف أول في العقد سواء أكان مصدراً أم مصنعاً أم تاجراً، والمزارعين المنتجين كطرف ثانٍ، يحدد بموجبه شروط إنتاج وتسويق المنتج وفق كميات وأسعار متفق عليها، وينبغي أن تستوفي المنتجات المستهدف إنتاجها معايير الجودة التي يحددها المشتري خلال الوقت المتفق عليه أيضاً، وفي المقابل فإن المشتري يكتفي بالالتزام بشراء المنتج فقط، أو يدعم الإنتاج من خلال توفير المدخلات الزراعية أو تقديم سلف نقدية بعد التوقيع أو توفير المشورة الفنية أو القيام بنقل المحصول.. وتتمحور هذه المبررات التي ساقتها دراسة صادرة عن المركز الوطني للسياسات الزراعية في وزارة الزراعة بخفض تكلفة المعاملات والممارسات التسویقیة، والتقلیل من حجم المخاطر المتصلة بالكمیة والنوعیة للمنتجات الزراعیة مقارنة بالزراعات العادیة من خلال وجود سعر وكمية ونوعية ووقت محدد موثق.
استقرار
وقد اعتبرت الدراسة التي حملت عنوان “الزراعة التعاقدية وفرص تطبيقها في سورية” أن التنسيق من خلال التعاقد يؤدي إلى تخفيض المخاطر السعرية إلى حد ما، إضافة إلى التغيرات العصرية في ذوق ورغبات المستهلكين الذين أصبحوا أكثر ثقافة ووعياً عند تناول الغذاء تحديداً، فضلاً عن الطلب المتزايد على الأغذية المصنعة ذات القيمة المضافة، وحاجة مصانع الأغذية إلى استقرار انسياب المواد الخام والاهتمام بالشروط الصحية وسلامة الغذاء والمحافظة على البيئة تزامناً مع الاتجاه نحو التجارة والتصنيع في الزراعة وخاصة في البلدان النامية والأقل نمواً. إلى جانب أن خصائص الإنتاج والتسويق الزراعي تلائم التعاقد في الزراعة كون المنتجات الزراعية الطازجة “الخام” كبيرة الحجم وسريعة التلف، ويحصر تعاملها في المشترين القريبين من مواقع الإنتاج، ويفرض تكلفة أعلى في حال التسويق لمناطق أبعد عن مراكز الإنتاج، بينما الصناعات الغذائية تتطلب منتجات زراعية معينة ذات مواصفات محددة، وهذا يعتبر مانعاً لخروج الفلاح من مجال الإنتاج ويجعل عرض المنتجات الخام غير مرن.
وفورات
وعرضت الدراسة –التي اطلعت عليها “البعث”- مزايا الزراعة التعاقدية للمنتجين ولاسيما الصغار منهم، نظراً لما تحققه من ضمانات تسويقية واستقرار يطمئن المزارع لتسويق منتجاته بأسعار مرضية، وذلك قبل اتخاذ قرار الزراعة، وإتاحة الفرصة للمزارعين لاستخدام تقنيات زراعية متطورة تحقق زيادة في الإنتاجية أو تحسين مستوى جودة المنتجات أو كليهما، الأمر الذي يؤدي إلى تحسين مستويات دخول المزارعين ويقلل من معدلات الفقر الريفي، كما تتيح الزراعة التعاقدية مصادر تمويلية إضافية لصغار المزارعين، حيث يمكن استخدام العقود المبرمة كضمانات للحصول على قروض زراعية من النظام المصرفي، إضافة إلى أنها تهيئ الظروف التسويقية الملائمة لإقامة العديد من عناصر البنية التسويقية، مثل المخازن المبردة ومحطات الفرز والتعبئة وذلك بصورة مركزية اعتماداً على العمل الجماعي، الأمر الذي يحقق وفورات هامة في اقتصادات تشغيل هذه التسهيلات التسويقية، وتتيح إمكانية إقامة مناطق زراعية متخصصة للحد من انتشار الأمراض والأوبئة الزراعية، إلى جانب إتاحة فرص ملائمة للمزارعين لتنمية مهاراتهم وخبراتهم في مجال تطبيق تقانات الزراعة الحديثة.
مزايا
أما مزايا هذه الزراعة بالنسبة للمصدرين والمصنعين والتجار فتنحصر بإمكانية التعاقد المسبق على تصدير كميات محددة من المنتجات الزراعية مما يساعد على انتقاء الفرص التسويقية الملائمة في الأسواق الخارجية، وزيادة معدلات التشغيل في مشاغل ومصانع التصنيع الزراعي، الأمر الذي يقلل من تكلفة عمليات التصنيع ويزيد القدرة التنافسية للمنتجات المصنعة، وزيادة القدرة على التحكم في نوعية السلع المسوقة أو المصنعة ودرجة تجانسها وجودتها وفق الاتفاقيات المبرمة بين الطرفين، الأمر الذي يزيد من كفاءة عمليات التسويق أو التصنيع برمتها.
خجولة
وأشارت الدراسة إلى عدم وجود نظام متكامل منظم للزراعة التعاقدية في سورية، وإنما هناك ترتيبات شفوية أو مكتوبة ومبادرات خجولة للتعاقد يديرها كبار المصدرين والمصنعين تحتاج إلى تعميم على نطاق واسع هذا فيما يتعلق بالقطاع الخاص، بينما في نظيره العام هناك شبه تعاقدات بين عدد من مؤسسات الدولة والمزارعين ضمن إطار الجمعيات الفلاحية تحتاج إلى تنظيم وبلورة، بالإضافة إلى تجربة المؤسسة السورية للتجارة التي أنشئت مطلع العام 2017، مبينة أن مؤسسات تسويق المحاصيل الاستراتيجية كالقمح والقطن والتبغ تقدم مستلزمات الإنتاج للمزارعين فيما يخص هذه المحاصيل على أن يتم تسويقها لصالحها بعد الحصاد بواسطة المصرف الزراعي.
جهات مخولة
وبينت الدراسة الجهات المتاحة والمتوخاة للتعاقد كالجمعيات الفلاحية التي تعتبر منظمات شعبية ونقابية واقتصادية، والتي تكون متعددة الأغراض أو متخصصة، وتمارس نشاطها في جميع مجالات النشاط الفلاحي الإنتاجي التي تتطلبها حاجة أعضائها ضمن إطار خطة الدولة وسياساتها العامة، إضافة إلى تسويق أو المساعدة في تسويق جزء من إنتاج أعضائها التعاونيين لصالحها أو لصالح أعضائها تزامناً مع توفير وتسهيل حول الفلاحين المنتسبين لها المستلزمات الضرورية والقروض وغيرها من فروع المصرف الزراعي.
ومن الجهات المخولة بالتعاقد المؤسسات الحكومية المعنية بتسويق المحاصيل الاستراتيجية وفروعها المنتشرة في المحافظات، ومؤسسات الغذاء التابعة للقطاع العام وتتصدرها المؤسسة العامة للصناعات الغذائية التابعة لوزارة الصناعة والتي تشغل عدداً من معامل الخضار والفواكه المصنعة والزيوت والألبان والصناعات السكرية، إضافة إلى معامل وشركات القطاع الخاص وتحديداً ما يخص الكونسروة والصناعات الغذائية والمرتديلا، إلى جانب مشاغل الفرز والتوضيب والتسويق التي تعنى بالتسويق الداخلي والخارجي، وكذلك جمعية المصدرين السوريين للمنتجات الزراعية “سابيا”، وتجار الجملة، وصالات بيع المؤسسة السورية للتجارة، والمولات الكبيرة.
صعوبات
وعرج التقرير على واقع الأسواق السورية ومشكلاتها، مشيراً إلى أن العملية التسويقية ومكوناتها تعاني من صعوبات ومعوقات تؤثر سلباً على المزارع والمنتجات الزراعية، منها ضعف التمويل بغرض التسويق لصغار المزارعين، وتعرض المزارعين لتقلبات أسعار المدخلات الزراعية وأسعار المنتجات النهائية، ووجود فروقات في الأسعار بين المحافظات من جهة وبين منطقة الإنتاج ومناطق الاستهلاك، إضافة إلى تعدد القنوات التسويقية والكثرة المخلة للوسطاء مما يؤدي لارتفاع التكاليف التسويقية المؤثرة على ريعية المزارع في ظل ارتفاع حصة هؤلاء الوسطاء على حساب ربحية المزارع، وتفشي ظاهرة احتكار التجار لبعض المنتجات مما يؤثر بشكل مباشر على ثبات واستقرار الأسعار، إلى جانب عدم توفر الخدمات التسويقية الكافية والجيدة خاصة فيما يتعلق بالتخزين والتصنيف والتغليف والترويج للمنتج، وعدم انتشار ثقافة الاطلاع لدى التجار المزارعين والتجار على تجارب وخبرة الدول المتقدمة في مجال التسويق الزراعي وأساليبه المتطورة، وعدم الدراية الكافية بالمعلومات السوقية التي تساهم في تشكيل خبرة وثقافة التاجر والمزارع، ويضاف إلى ذلك ظروف الحرب وتداعياتها السلبية مع ارتفاع أسعار المدخلات الزراعية في حال توافرها مترافقاً مع ارتفاع تكاليف العملية التسويقية.
الخيار الأمثل
واعتبر التقرير أن ما يعانيه التسويق الزراعي من هذه مشكلات آنفة الذكر، تدفع باتجاه تنظيم وترتيب للرحلة التسويقية قبل الدخول بمضمار الزراعة التعاقدية لتتلاءم مع شروطها، وبذلك تكون الزراعة التعاقدية دافعاً لتنظيم بنيان التسويق الزراعي بغية حل جزء من مشكلاته واستجابة لارتفاع تكاليف المعاملات ومخاطرها والاستفادة من مزايا التطبيق والتوجه نحو التعاقدات الزراعية المتمثلة في زيادة دخول المزارعين وخاصة الصغار منهم، والاستفادة من الفرص التسويقية المتاحة وزيادة معدلات التصدير، وإيجاد المزيد من فرص العمل في قطاع الصناعات الزراعية، وتعزيز القدرة التنافسية للمنتجات الزراعية وبالتالي تحسين أوضاع الميزان التجاري، إلى جانب الارتقاء بالمستوى الصحي لسلع الغذاء وسلامة الغذاء.