حين تنتخب الضحية جلادها
في التاسع عشر من آب عام 1934 انتُخب أدولف هتلر رئيساً لألمانيا، قبل ذلك التاريخ بأكثر من عام كامل كان “الرايخستاغ” يحترق بالنيران، وبالطبع استغل هتلر – الذي كان حينها مستشاراً لألمانيا – الحريق لاتهام المعارضة به، وتلا ذلك قمع رهيب طال قوى سياسية واجتماعية وعسكرية عدة، سواء بالاعتقال أو النفي أو الاغتيال، وكانت نتيجة الحقبة الهتلرية ما يعرفه الجميع اليوم عن حريق طال أوروبا والعالم بأكمله.
في الرابع والعشرين من حزيران لهذا العام تمّت إعادة انتخاب رجب طيب أردوغان رئيساً لتركيا مع صلاحيات رئاسية “هتلرية” بامتياز، وقبل هذا اليوم بعامين تقريباً، وتحديداً في تموز من عام 2016 كانت حادثة “الانقلاب الفاشل” التي استغلها أردوغان للانتقال للمرحلة الاستبدادية المطلقة من تاريخه قامعاً كل معارضيه السياسيين والعسكريين معتمداً وصفة معلمه هتلر ذاتها، أي الاعتقال والنفي والاغتيال، ما يؤشّر إلى النتيجة المأسوية على الجميع في الحقبة الأردوغانية القادمة.
والحال فإن من يراقب سيرة أردوغان سيلاحظ ذلك التطابق المدهش بين التلميذ ومعلمه، سواء في الانطلاقة الأولى لكليهما، أو في المسار اللاحق الحافل بالأخطاء والخطايا اعتماداً على نظرة “مانوية” ثنائية للعالم يفضحها الخطاب الأردوغاني المنقول من الكتاب “الهتلري” مباشرة، فالعالم ينقسم، بحسب هذا الخطاب، إلى أخيار، وهم أردوغان وجماعته، وأشرار، وهم كل من يقول له لا سواء في الداخل أم في الخارج، وعلى غرار المناداة اليومية بألمانيا النازية فوق الجميع وهتلر فوقها بالطبع، فإن تركيا العثمانية، في الخطاب الأردوغاني، هي أيضاً فوق الجميع وأردوغان بشخصه “المقدّس” فوقها بالطبع.
وكما وصل هتلر إلى الحكم رافعاً شعارات جميلة وبراقة، ثم ابتلعها بعد التمكّن والتمدد ضد الداخل والخارج معاً، رفع أردوغان في طريقه للسلطة شعار الدولة المدنية العلمانية والإسلام المتصالح مع الديموقراطية ومبدأ “المشاكل صفر” في مرحلة “التمسكن”، ليسفر في مرحلة التمكّن عن نزوع ديكتاتوري مدمّر، ففي سعيه لربط تركيا بشخصه مرة واحدة للأبد، حوّل الداخل إلى أكبر سجن في العالم، باعتراف الغرب نفسه، للصحفيين وقادة الرأي والقضاة والعسكر، سادّاً أفق التغيير السلمي الداخلي ومجوّفاً الحياة السياسية – دون أن يستثني حتى حزبه الحاكم – من قواها الحية.
وفيما حاول، في جواره الإقليمي، استعادة سيرة “الباب العالي” و”الفرمانات” السلطانية التي تحيي وتميت، دون الاكتراث بالحقائق القاسية للتاريخ والجغرافيا، في المنطقة والعالم، لم تكن مسيرته مع القوى الخارجية الكبرى سوى سيرة تابع صغير يؤدي دوره ببراعة يحسد عليها، سواء في عملية تدمير وتفتيت المنطقة بكاملها عموماً، أو في بيع فلسطين خصوصاً، التي استثمرها لبناء سمعته “الإسلاموية” عبر تقديم جرعات متتالية من الخواء الكلامي الظاهري، في الوقت الذي يتابع فيه التشبيك السياسي والاقتصادي الكامل مع “إسرائيل”، الأمر الذي استشفه مسبقاً الزعيم الإسلامي التركي الراحل نجم الدين أربكان حين أعلن أن حزب العدالة والتنمية “باع القضية، وتحوّل إلى أداة خطيرة بيد القوى الامبريالية والصهيونية”.
خلاصة القول: ربما تكون متلازمة استوكهولم الشهيرة هي التي دفعت الضحية لانتخاب جلادها، و”المتلازمة” الشهيرة “هي ظاهرة نفسية تصيب الفرد عندما يتعاطف، أو يتعاون مع عدوه، أو من أساء إليه بشكل من الأشكال”، وربما يكون الدافع هو الجو المذهبي الخانق الذي روّج له، وساهم في استفحاله أردوغان ذاته، وربما يكون الحلم باستعادة أمجاد السلطنة العثمانية العليّة الذي استثاره فيهم، وقد يكون الدافع هو مجموع ذلك كله، بيد أن حجم الاستقطاب القاتل الذي صنعه الجلاد في الداخل التركي لا يمكن تجاهله، وحجم الجرائم التي ارتكبها في العلاقات مع الجوار القريب محوّلاً الأمر من حلم “المشاكل صفر” إلى حقيقة “العلاقات صفر”، لا يمكن التغاضي عنه، وما بين استقطاب الداخل الحاد ومشاكل الخارج المصيرية ترتسم اليوم صورة مأساوية عن القادم من الأحداث والويلات لرجل فتح بيديه، كما فعل معلمه سيئ الذكر “هتلر”، صندوق باندورا المشؤوم
أحمد حسن