الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

…وفِتنة الكرْد

عبد الكريم النّاعم

اعتمدت المؤامرة الكونيّة على سوريّة والأمّة العربيّة على إثارة الفِتن الداخليّة، منطلقة من التكوين المجتمعي لتلك البلدان، فحيث لا تعدّد مذهبيا طائفيا، لجأت إلى إثارة العنعنات القبَليّة، كما جرى في ليبيا، أمّا في سوريّة فقد كانت الأوراق متعدّدة، ومتداخلة، وقد جرى عبرها تسعير الطّائفيّة، والاثنيّة.

هنا لابدّ من التذكّر الدائم أنّ عدم تجذّر هذه المشكلات في بنية مجتمعنا، وعدم استجابة الأغلبيّة لهذه الإثارات، وبسالة مقاتلينا الشجعان، وإخلاص أصدقائنا شركائنا في النصر، هو الذي أفشل هذه المؤامرة.

الفتنة الكرديّة فتنة مركّبة، وما سأكتبه عنها ليس إلاّ رؤوس أقلام، ولا شكّ عندي أنّ ثمّة مَن سيتصدّى لذلك بكفاءة أكبر.

أصبح من المعروف جيداً أنّ الكرد نزحوا إلى الشمال السوري هرباً من التقتيل التركي لهم في عشرينيات القرن الماضي، وكعادة سوريّة العربيّة في استقبال مَن يلتجئ إليها استقبلتهم، وصاروا من نسيجها المجتمعي، وكان لهم ما كان لغيرهم، ولأهل البلد، من حقوق وواجبات، وهذا ما أخذت به سوريّة منذ بداية الدولة الوطنيّة، ولم يكونوا يشكلون أكثريّة في مناطق الشمال، بل الأكثريّة هي للعرب، وللسريان، وللآشوريّين، ولقد ازداد عددهم إلى ما وصلوا إليه بسبب النّزوح من الظلم التركي، وهربا ممَا واجهوه في العراق، ومن هؤلاء كان الذين سُمّوا وقتهم (الْبدون)، أي لا يحملون بطاقة شخصيّة وطنيّة رسميّة، وأقام البعض الدنيا ولم يُقْعدها لذلك الإجراء، وقد حُلّ فيما بعد.

حين اندلع الحريق العربي، نجح الحلف العدوّ في استدراج بعض القيادات الكرديّة، ووجد هؤلاء مَن يستجيب لدعوتهم، وكانت المفاجأة المذهلة أنّهم انتقلوا من طلب المحافظة على ثقافتهم، وعاداتهم، وتقليدهم، واحتفالاتهم، إلى “روج آفا”، وهي المنطقة الممتدّة من عفرين إلى القامشلي بعمق يختلف هنا وهناك، وتدفّقت عليهم الأسلحة، وصار لـ (روج آفا عَلَم)، وهّدِّد الشمال السوري بالاقتطاع، استنادا إلى وعود صهيو أمريكيّة تحديدا!.

وتطوّرت الأحداث، وبدأ الميزان يميل لصالح حلف المقاومة في مواجهة الحلف الصهيو أمريكي الأعرابي، وظلّ أصحاب العناد على عنادهم، ضاربين بعرض الحائط حقائق التاريخ، والجغرافيا، غير آبهين بأنْ لا الأتراك، ولا السوريون، ولا الإيرانيون يقبلون بهذا الطرح، بل إنّ سفير الولايات المتحدة السابق في دمشق روبرت فورد، كان صادقا في نصحه حين قال لهم إنّ الأمريكان سيتخلّون عنهم، فما نفع هذا في شيء، كما لم ينتفعوا من تجربة مصطفى البرزاني الأولى، ولا من تجربة ابنه بعده في نتائج الاستفتاء الذي أجراه، وها هم الآن يقفون وجها لوجه مع تفضيل واشنطن لكسب ودّ تركيا الأردوغانيّة على حساب ما منّوهم به.

الآن ثمّة بوادر لـ (القبول) بالحوار غير المشروط مع الدولة السوريّة، وهذا لم يأت إلاّ بعد يأس، وعلى الأغلب أن تستجيب الدولة الوطنيّة لما فيه المصلحة العامّة، ولكنّ هذا لن يمسح من الذاكرة تلك الانعطافات المُدانة، وبظنّي أنّ أوّل من سيتصدى للتصحيح هم الوطنيّون من الأكراد الذين وقفوا في صفّ دمشق المقاومة منذ البداية.. عسى أن يكون الدرس نافعا.

aaalnaen@gmail.com