مرحلة أعلى من الصوفية الوطنية
من الواضح تماماً أن انتصارات الجيش العربي السوري في مكافحة الإرهاب، في المناطق القليلة المتبقية التي لاتزال تخضع لسيطرة بعض فلول وبقايا المجموعات والتنظيمات الإرهابية، باتت أشبه بإنجازات يومية تلقائية تكاد لا تحتاج إلا إلى إصدار الأمر بالتحرّك. وإذا كان ذلك يعكس، في جانب منه، تنامي وتطور القدرات التكتيكية والعملياتية والجهوزية العالية للجيش العربي السوري، وسرعة تحركه وأدائه لمهامه القتالية، وفق خطط واضحة ومحددة، فإن إعلان القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة أمس عن تحرير كامل بادية دير الزور من إرهابيي تنظيم “داعش” التكفيري، وإمكانية التقدّم المضطرد والمتواصل – بالتوازي – على محاور جبهة الجنوب، عدا عن سلسلة العمليات الروتينية، التي يمكن أن تشمل أعمال التأمين والتطهير في مناطق أخرى مختلفة، يعني أن قواتنا المسلحة باتت مرتاحة، وقادرة على فتح أكثر من جبهة قتالية، أو خوض أكثر من معركة عسكرية حاشدة في وقت واحد.
وبالطبع، فإن ذلك يعني الكثير بالنسبة لمجموعات إرهابية باتت تفتقد نهائياً للروح القتالية التي كان يوفّرها لها فائض الدعم الخليجي والأردوغاني والإسرائيلي والأطلسي، إن لم نقل – وهو الأدق – أنها تلفظ أنفاسها، بل وتقطعت بها السبل، وسط حالة من الانهيار النفسي والمعنوي الشاملين، مع تضيق الخيارات والتسويات الأمنية، إذا أخذنا بالاعتبار أن الخروج إلى دير الزور لم يعد مدرجاً على القائمة بعد تحرير البادية، وأن حالة الإشباع التي وصلت إليها إدلب تهدد بنشوب حالة جد خطيرة من صراع بقاء يتزايد احتداماً بتزايد الحاجة للتلطي وراء نزاعات وخلافات إيديولوجية مزعومة لإخفاء حقيقة صراعات المصالح الشخصية المتفاقمة بين متزعمين يكابدون اليوم مشقة العودة المعاكسة من فردوس “أمراء الجهاد” والزعامات المطلقة الميدانية التي فرضتها معطيات الحرب إلى الحالة الأولية، كقطاع طرق وخارجين عن القانون وحثالات هامشية تعود اليوم إلى طبيعتها الأصلية مع فارق واحد هو أنها تحظى بالملاءة المالية التي تخمّن أنها ستؤهلها للاستمرار بالتمتع بالسلطة والطغيان في الفردوس الجديد لحياة مدنية مريحة ومربحة وآمنة.
لم يكن الإعلان عن تحرير بادية دير الزور مفاجئاً، تماماً كما لم يكن متوقّعاً بهذه السرعة وهذا التوقيت. ببساطة كانت فكرة الأولويات هي المهيمنة، إلى أن تأكّد أنه يمكن العمل على عدة جبهات متقاطعة أم متوازية. أيضاً شكّل التصميم والحزم اللذين رافقا اتخاذ قرار تحرير المنطقة الجنوبية، ومن ثم إطلاق العملية العسكرية اللازمة والمطلوبة، تعبيراً صريحاً وبليغاً عن امتلاك كامل الإرادة السياسية والوعي بحيازة أدوات وعوامل القوة الضرورية لتحقيق الأهداف والمصالح العليا والاستراتيجية للدولة السورية الآخذة في التعافي الجدي، وغير القابل للرجوع ابتداء من الآن، بعد سبع سنوات من حرب قذرة – تكشّفت عن الحدود القصوى للشر والإجرام والشراسة – استهدفت مصادرة قرارها المستقل، وإخضاعها للأجندات والإملاءات الخارجية، والدوران بها في فلك المصالح السعودية والأمريكية في المنطقة.
معنى ذلك على المستوى الاستراتيجي أن الأزمة أضحت خلف ظهور السوريين، وأن المؤسسة السياسية والعسكرية والأمنية تعمل بكفاءة عالية وفي ظروف من التحديات اليومية غير المألوفة في الأحوال العادية، بل والمصنّفة خطرة بامتياز، ولكنها – المؤسسة – بلغت درجة الاستجابة المثالية. معناه أيضاً أن سورية في طور الخروج النهائي من عنق الزجاجة، وأنها عائدة في أقرب وقت لفرض أجندتها الداخلية والإقليمية بما يتوافق مع حجم انتصارها أولاً، وحجم خسارة أعدائها ثانياً، وحجم فوز حلفائها ثالثاً، على الساحتين الإقليمية والدولية؛ علاوة على أن الانتصار السوري، بعد كل أعوام المحنة الطويلة هذه، أعاد تشكيل وترتيب عناصر ومقومات القوة السياسية والعسكرية والاجتماعية والأخلاقية، على المستوى الإقليمي، بحيث مكّنت المحنة، لدى الغالبية السورية الحقيقية، من إحداث حالة التطهّر التاريخية المطلوبة للانتقال إلى مرحلة أعلى من الصوفية الوطنية.
يمضي مسار الانتصارات في خط مستقر وثابت، والجيش العربي السوري يسجل إنجازات متسلسلة، وبالجملة، هي حصيلة طبيعية ومفهومة لأداء متصاعد. ولا تراجع بعد اليوم لأن إيمان وصمود السبع سنوات الماضية راكم الرصيد المعنوي والميداني الذي يمكن من خلاله التعامل مع الانتصار بصفته مرادفاً للوجود، وأحد مبرراته. لقد وجد الجيش العربي السوري لينتصر، وفقط لينتصر، وتاريخه شاهد على ذلك.
بسام هاشم