وتستمر أسطورة القصف الأمريكي “الدقيق”
ترجمة وإعداد: سمر سامي السمارة
دأبت وسائل الإعلام الأمريكية بصورة روتينية على تكرار نقاط البنتاغون الحوارية حول دقة القصف الأمريكي، ولكن ما مدى دقة هذه الهجمات، وعليه فقد توصلت استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة الأمريكية، والمملكة المتحدة، إلى أن غالبية الرأي العام في كلا البلدين تعكس اعتقاداً راسخاً بأن عدد من لقوا حتفهم جراء الغزو الأمريكي- البريطاني للعراق في عام 2003 لا يتجاوز 10000 عراقي، في الواقع، تتراوح التقديرات حول عدد القتلى في العراق بين 150,000 و 1.2 مليون شخص، ولعل أحد الأسباب التي أدت إلى هذا التصور الذي تم تضليله بشكل خطير لدى الرأي العام تأتى من الإيمان الجدي لدى الأمريكيين باستخدام الأسلحة الموجهة، وفقاً لما تخبره الحكومة لهم عن عمليات القصف الجوي “الدقيق”، ولكن لابد للمرء أن يسأل: كيف يمكن أن يُقتل هذا العدد الكبير من الناس إذا كانت هذه الأسلحة “دقيقة للغاية”، فعلى سبيل المثال أدت إحدى “الحملات الجوية الأكثر دقة في التاريخ العسكري”، بحسب متحدث من البنتاغون، إلى دمار شامل في الرقة في سورية العام الماضي؟!.
والمفارقة المروعة لـ “الأسلحة الدقيقة” أنه زادت قناعة الإعلام والجمهور بشكل خاطئ بالصفات شبه السحرية لهذه الأسلحة، وأصبح من الأسهل على القادة العسكريين والمدنيين الأمريكيين تبرير استخدامها لتدمير قرى وبلدات بأكملها، ومدن في بلد تلو الآخر، كما كان الحال في الفلوجة، والرمادي، والموصل في العراق، وسانغين وموسى قلا في أفغانستان، وسرت في ليبيا، والرقة في سورية.
تاريخ غير دقيق
كان الاستخدام البارع للمعلومات المضللة حول عمليات القصف “الدقيق” أساسياً لتطوير عمليات القصف الجوي كسلاح استراتيجي، وفي منشور دعاية للحرب العالمية الثانية بعنوان “سلاح النصر النهائي”، أشادت الحكومة الأمريكية بقاذفات من طراز B-17 بـ “، القاذفة الأقوى التي تم إنشاؤها على الإطلاق، والمجهّزة بموجه “نوردن” للقنابل الدقيق للغاية.
وجد تقرير “بوت” 1941 في المملكة المتحدة أن خمسة بالمئة فقط من قاذفات القنابل البريطانية كانت تلقي قنابلها على بعد خمسة أميال من أهدافها ، وأن 49 بالمئة من القنابل سقطت في “منطقة خلاء”.
وفي “وثيقة “دي هاوسنغ”، رأى المستشار العلمي الرئيسي لحكومة المملكة المتحدة بأن القصف الجوي الشامل للمدن الألمانية الذي يهدف “لحرق المساحات السكنية”، وتحطيم الروح المعنوية للسكان المدنيين، سيكون أكثر فعالية من القصف “الدقيق” الموجه لأهداف عسكرية، واتفق الزعماء البريطانيون على اعتماد هذا النهج الجديد، القصف المكثف للمنطقة، مع هدف استراتيجي واضح هو “حرق المساحات السكنية” للسكان المدنيين في ألمانيا.
وسرعان ما تبنت الولايات المتحدة الاستراتيجية ذاتها ضد كل من ألمانيا واليابان، ونقل طيار أمريكي عن مسح ميداني اعتبار القصف الاستراتيجي الأمريكي الدقيق بعد الحرب مثيراً للسخرية، لأن هجوماً كبيراً كان على الأراضي الزراعية الألمانية.
كان تدمير كوريا الديمقراطية بعمليات القصف التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب الكورية شاملاً لدرجة أن القادة العسكريين الأمريكيين قد قدروا أنهم قتلوا 20٪ من سكانها.
وفي القصف الأمريكي لفيتنام ولاوس وكمبوديا، ألقت الولايات المتحدة قنابل فاقت عدد القنابل التي ألقتها كافة الأطراف مجتمعة في الحرب العالمية الثانية، مع استخدام النابالم والقنابل العنقودية المروعة على نطاق واسع، نفر العالم كله من هذه المذبحة الجماعية، وحتى الولايات المتحدة انبرت لتخفيض طموحاتها العسكرية لمدة عشر سنوات على الأقل.
حرق الإطارات
شهدت الحرب الأمريكية في فيتنام استخدام “القنبلة الذكية الموجهة بالليزر”، لكن الفيتناميين سرعان ما علموا بأن الدخان المنبعث من حريق صغير أو حرق الإطارات كان كافياً للتشويش على نظام التوجيه الخاص بها، “كانوا يقفزون في كل مكان”، قال GI لدوغلاس فالنتين، مؤلف برنامج “الفونكس”: “كان الناس يبتسمون ويقولون: “هناك قنبلة ذكية أخرى!.. لذا، فإن جندياً فيتنامياً وبعض أعواد ثقاب وإطارات قديمة تفسد الأمر”.
وبقيت عقدة الفشل الأمريكي في فيتنام تلاحق مصنعي السلاح الأمريكي في الولايات المتحدة حتى وقت إشادة الرئيس بوش في حرب الخليج الأولى بأنها اللحظة التي “تخطت فيها أمريكا عقدة فيتنام بشكل نهائي”، لعبت المعلومات الخادعة عن القصف “الدقيق” دوراً حاسماً في إحياء الروح العسكرية للولايات المتحدة بعد الهزيمة في فيتنام.
تدمير العراق
قصفت الولايات المتحدة وحلفاؤها العراق بقسوة، ما أدى إلى تخفيض قوامه في وقت لاحق من “مجتمع حضري ومتماسك إلى حد كبير” إلى “دولة ما قبل عصر الصناعة” بحسب تقرير للأمم المتحدة، لكن الإعلام الغربي قام بتغطية جلسات الإحاطة للبنتاغون، وبث مقتطفات على مدار الساعة من الضربات “الدقيقة” الناجحة، كما لو كانت تمثل الحملة بأكملها، وكشفت تقارير لاحقة أن سبعة بالمئة فقط من أصل 88500 طن من القنابل والصواريخ المدمرة للعراق كانت أسلحة “دقيقة”.
لقد حولت الولايات المتحدة قصف العراق إلى تمرين تسويقي لصناعة الحرب الأمريكية، وإرسال الطيارين والطائرات من الكويت مباشرة إلى معرض باريس الجوي، وبعد هذه التجارب شهدت السنوات الثلاث القادمة صادرات أسلحة أمريكية قياسية عوضت الانخفاض الصغير في شراء الأسلحة الأمريكية بعد نهاية الحرب الباردة.
كانت أسطورة القصف “الدقيق” التي ساعدت بوش والبنتاغون في “ركلة متلازمة فيتنام” ناجحة جداً لدرجة أنها أصبحت نموذجاً لإدارة البنتاغون للأخبار في حملات القصف الأمريكية اللاحقة، كما أعطانا تعبير “الأضرار الجانبية” المزعجة لقول مدنيين قُتلوا بواسطة قنابل خبيثة.
“الصدمة والرعب”
في الوقت الذي شنت فيه الولايات المتحدة والمملكة المتحدة حملة “الصدمة والرعب” على العراق في عام 2003، قدر روب هيوسن أن ما بين 20 و 25 بالمئة من الأسلحة “الدقيقة” الأمريكية والبريطانية كانت تخطىء أهدافها في العراق، مشيراً إلى أن هذا كان تحسناً كبيراً مقارنة بقصف يوغسلافيا عام 1999، عندما كان 30-40 في المئة من القنابل لا تصيب أهدافها.
منذ الحرب العالمية الثانية، خفضت القوات الجوية الأمريكية تعريفها لـ “الدقة” من 25 قدماً إلى 10 أمتار أي (39 قدماً)، ولكن ذلك لايزال أقل من محيط انفجار حتى أصغر قنابلها التي تزن500 رطل، لذا فإن الانطباع بأنه يمكن استخدام هذه الأسلحة في “هدم” منزل أو مبنى صغير في منطقة حضرية دون التسبب في وقوع إصابات ووفيات في جميع أنحاء المنطقة المحيطة، بالتأكيد مخطط له.
شكّلت الأسلحة “الدقيقة” نحو ثلثي الـ 29200 قطعة سلاح التي استهدفت القوات المسلحة والناس والبنية التحتية في العراق عام 2003، لكن الجمع بين 10000 قنبلة “غبية” غير موجهة و 4000 إلى 5000 قنبلة “ذكية” وصواريخ تخطىء أهدافها، يؤكد أن ما يقارب نصف أسلحة حملة “الصدمة والرعب” كانت عشوائية مثل القصف الصاروخي للحروب السابقة، طلبت تركيا من الولايات المتحدة وقف إطلاق صواريخ كروز عبر أراضيها، حيث سقط بعضها على أراضيها، كما سقطت ثلاثة أيضاً فوق الأراضي الإيرانية.
وقال هيوسون: “كيف يمكن دفع فاتورة حرب شُنت لصالح الشعب العراقي أدت إلى قتله، لكن لا تتوقعوا إلقاء القنابل دون قتل الناس”.
عمليات القصف “الدقيقة” اليوم
منذ أن بدأ باراك أوباما بقصف العراق وسورية عام 2014، تم إطلاق أكثر من 107000 قنبلة وصاروخ، ويزعم المسؤولون الأمريكيون أن بضع مئات من المدنيين قد قتلوا، فيما تواصل الحكومة البريطانية ادعاءها الباطل بأن أياً من قنابلها التي بلغ عددها 3700 لم تقتل أي شخص.
بينما أكد وزير الخارجية العراقي السابق “هوشيار زيباري” لـ باتريك كوك برن” مراسل صحيفة الأندبندنت البريطانية أن غارات جوية أمريكية وهجمات بالمدفعية أمريكية وفرنسية قتلت ما لا يقل عن 40 ألف مدني في مسقط رأسه بحسب تقارير استخبارية عسكرية، وأن الكثير من الجثث مازالت مدفونة تحت الأنقاض، بعد عام تقريباً، لايزال هذا التقدير الرسمي الواقعي الوحيد المستشعر عن بعد لعدد القتلى المدنيين والإصابات في الموصل، إلا أن وسائل الإعلام الغربية السائدة الأخرى لم تتابعها.
يتم إخفاء عواقب الحروب الجوية الأمريكية في صور ومقاطع فيديو لا حصر لها- على مرأى من الجميع- ويقوم البنتاغون ووسائل الإعلام المؤسسي بطمس الأدلة، لكن القتل الجماعي والتدمير الشامل جراء القصف الجوي الأمريكي حقيقة ماثلة أمام أعين الملايين ممن نجوا منها!.