التدليس حاكمية إلهية يتولاها بشر!!
عبد الرحمن غنيم
كاتب وباحث من فلسطين
كلنا نعرف أن التوجيه الإلهي فيما يتعلق بالمجتمع أو بالمجتمعات الإسلامية إنما يتمثّل في قوله سبحانه وتعالى: “يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردّوهُ إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلاً” “النساء 95″، وكلنا نعرف أن قوله تعالى: [فردّوهُ إلى الله والرسول” إنما يعني الاحتكامَ إلى القرآن والسنة، وهذا الاحتكام يكون عند وقوع نزاع ما أو خلاف ما حول شيء ما.
– ما الذي يعنيه هذا التوجيه الإلهي؟.
إنه يعني أن حاكمية المسلمين في الأرض، كحاكمية غير المسلمين، هي حاكمية بشرية، ولا يمكن أساساً إلا أن تكون حاكمية بشرية، كل ما في الأمر أن المرجعية الفقهية التي يحتكم إليها المسلمون عند حدوث نزاع حول شيء ما تتمثّل بالعودة إلى القرآن والسنة للاهتداء بهما في فض هذا النزاع، ولا يختلف الأمر عند غير المسلمين عن ذلك بدلالة أن الله سبحانه وتعالى جعل لكل أصحاب ديانة شرعاً ومنهاجاً، بل إن المجتمع الإسلامي مطلوب منه أيضاً أن يحترم هذه التعددية في التشريع، وما يؤكد أنها حاكمية بشرية أن الاختلاف حول الأحكام فيها وارد، وأن النزاع وارد، وأن حق الاعتراض وارد، وأن اللجوء إلى التحكيم وارد، وهذا ما يثبته قوله عز وجل: “فإن تنازعتم في شيء”، فلو كانت الحاكمية إلهية وليست بشرية لما كان النزاع وارداً، ولوجبت الطاعة المطلقة دون نقاش، ولما كانت هناك حاجة إلى الاحتكام للقرآن والسنة، فحاكمية الله– كما أسلفنا– هي حاكمية مطلقة، وهي فوق كل الحاكميات، إسلامية كانت أو غير إسلامية، وهنا توجد أيضاً ملاحظة في غاية الأهمية يجب الانتباه إليها، وهي أن النص على إطاعة “أولي الأمر” بالجمع يتضمن دلالة تعدد أولي الأمر، وقد يفترض البعض أن هذا التعدد يأتي بالتتابع، ولكنه يمكن أيضاً أن يكون تعدداً متزامناً، أي أن توجد للمؤمنين أكثر من دولة واحدة، وهذا أمر منطقي، خاصة أن مفهوم المؤمنين أوسع من مفهوم المسلمين، ثم إن الرسول “صلعم” يؤكد هذه التعددية في الحديث القائل: “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته”.
لم يشأ سيّد قطب أن يرى الأمر على هذا النحو الواضح والجلي والبسيط، فدعا إلى ما أسماها بالثورة الشاملة على حاكمية البشر في كلّ صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها، والتمرد الكامل على كلّ وضع في أرجاء الأرض الحكم فيه للبشر بصورة من الصور، واعتبر أن الناس في الحاكميات البشرية يعبد بعضهم بعضاً، وأن جميع الحكام البشر طواغيت “وليس الطريق أن يتحرر الناس من هذه الأرض من طاغوت إلى طاغوت”… “هكذا!!”.
– ما الذي يكون قد فعله في هذه الحالة؟.
إنه يكون أولاً قد دعا إلى إحلال الفوضى في العالم محل النظام، فقيامه برفض الحاكمية البشرية رفضاً مطلقاً على هذا النحو يعني رفض وجود الدولة أساساً، بل وتقويض النظام الذي يحكم العلاقات داخل القبائل والعشائر وبعضها البعض باعتبار أن هذه جميعاً تتضمن حاكمية بشرية، فما من عشيرة إلا ولها شيخها، وما من قبيلة إلا ولها شيخها وشيوخ عشائرها، وما من عائلة إلا ولها من يتولى قيادتها، ولا تختلف بنية الدولة في نهاية المطاف عن تراتبية هذه البنى الاجتماعية بما فيها من درجات وتسلسل في المسؤوليات.
وإزاء هذا المنطق نتساءل: من هم إذاً أولو الأمر الذين أمرنا الله سبحانه وتعالى بإطاعتهم؟.. أليسوا بشراً؟ أليسوا حاكمية بشرية؟.. وحين يدعو سيد قطب إلى التمرد عليهم، بل وإلغاء وجودهم، ألا يكون قد شق عصا الطاعة وخالف أمر الله عز وجل؟.. وحتى الرسول “صلعم” الذي أمر الله الناس بإطاعته أليس بشراً مثل جميع البشر اختصه الله بالرسالة؟.
إن ادّعاء سيّد قطب بأن الناس في الحاكمية البشرية يعبد بعضهم بعضاً لتبرير التمرد على الحكام ليس في حقيقته إلا افتراء يعرف كل الناس أنه لا صحة له على الإطلاق، كما أن استعمال قطب لكلمة طاغوت في غير دلالتها الدينية القرآنية يمثّل مشكلة أخرى تجسّد الافتراء حين يخلط بين الحكم سواء كان طاغياً أو لم يكن، وبين عبادة الطاغوت بمعنى المعبودات الزائفة، وشتان ما بين هذه الدلالة وتلك، فلا هذا الادّعاء المختلق ولا ذاك يبرران شق الطاعة على أولي الأمر ومخالفة أمر الله.
عن ابن عباس أن النبي “صلعم” قال: “من رأى من أميره شيئاً فكرهه فليصبر فإنه ليس أحدٌ يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة جاهلية”، وعن أبي هريرة عن النبي “صلعم” قال: “إنما الإمام جُنّةٌ يقاتلُ من ورائه، ويُتقى به، فإن أمر بتقوى الله عز وجل، وعدل، كان له بذلك أجر، وإن يأمر بغيره كان عليه منه”، وعن أبي حازم قال إنه سمع أبا هريرة يتحدث عن النبي “صلعم” قال: “كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر، قالوا: فما تأمرنا؟.. قال: فوبيعة الأول، وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم”، وعن علقمة بن وائل الحضرمي عن أبيه قال: سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله “صلعم” فقال: يا نبي الله، أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألوننا حقهم، ويمنعوننا حقنا، فما تأمرنا؟.. فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم سأله– في الثانية أو في الثالثة– فجذبه الأشعث بن قيس وقال: “اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حمّلوا وعليكم ما حمّلتم”، وعن عرفجة قال: سمعت رسول الله “صلعم” يقول “إنه ستكون هناتٌ وهنات، فمن أراد أن يفرّق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان”، وعن عرفجة قال: سمعت رسول الله “صلعم” يقول: “مَن أتاكم، وأمركم جميع على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه”.
والسؤال الآن: هل ما ذهب إليه سيد قطب ومن اتبعوه يدخل في باب إطاعة أولي الأمر أم يدخل في باب العصيان والتمرد وشق الجماعة؟.. وإذا كانت حجتهم في طريقة اختيار الحكام، فهذا هو الإمام أحمد بن حنبل حين يتطرق إلى شأن الخلافة والخليفة، وممّن يُختار، وكيف يُختار، يذهبُ مذهباً واقعياً يتجنّبُ الفتن ويؤثر الطاعة لإمام متغلب “ولو كان ظالماً” على الخروج على الجماعة عملاً بالسنة والسلف من الصحابة والتابعين.
إن ما يحدث داخل الجماعات أو التنظيمات التي أخذت بمنطق سيد قطب، ومنها الجماعات الإرهابية التكفيرية كـ “القاعدة وداعش”، أنها تشق عصا الطاعة على أولي الأمر، ثم تبايع أميراً تدينُ له بالطاعة المطلقة، وتعتبر أن أحكامه وأوامره واجبة التنفيذ باعتبارها تمثل “حاكمية الله”، وهنا توجد عملية تدليس كبرى على النفس وعلى الآخرين، ولعل عملية التدليس هذه هي التي تفسّر قوله عز وجل عن الضالين: “ولهم عذابٌ أليم بما كانوا يكذبون”.
علينا أن ننتبه إلى أن هناك فارقاً هائلاً بين من يقول بأنه يحكم مهتدياً بالقرآن والسنة، وبين من يدعي أن سلطته تمثّل حاكمية الله في الأرض، وأنها ليست حاكمية بشرية، فهو بهذا يدّعي لحاكميته عصمة لا يمكن أصلاً وبأي حال من الأحوال أن تتوفر لها، والأهم هنا أنه يعتبر قراراته واجبة الطاعة مهما كانت، ولا يحق لأحد مناقشتها، أو منازعته حولها، ومن ينتهج مثل هذا المنطق يكن عملياً قد ضلّ السبيل، وقد وضع نفسه ومن اتبعوه في منطقه أمام شبهاتٍ، الله وحده أعلم بحجم ما فيها من الضلال، وهذا المسلك وحده يكفي لإلحاق أصحابه بفئة الضالين.
قطب يطنب في الحديث عن “الطاغوت”
إن سيد قطب حين أطنب في الحديث عن “الطاغوت” وحكم “الطواغيت” لتبرير سعي جماعته إلى الإمساك بالسلطة بعد التمرد على أولي الأمر، وكأنهم بذلك يخلصون العالم فعلاً من حكم “الطاغوت”، إنما يعود بالناس القهقرى لتبرير هذا السلوك، ويدّعي ما لا يتفق مع الواقع، ولكي نفهم الأمر فهماً علمياً ومنطقياً نذكر بقوله سبحانه وتعالى: “ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالةُ فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين” “النحل 36”.
لننتبه هنا إلى أن الأقوام أو الأمم المشار إليها في هذه الآية مثل قوم نوح وعاد وثمود لم تكن دولاً ولها حكومات وحكام يُعبدون من دون الله أو لا يعبدون، وإنما كانت لاتزال في مرحلة ما قبل الدولة، وكانت تعبد أوثاناً وأصناماً وكواكب، ويقول سبحانه وتعالى أيضاً: “والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عبادِ” “الزمر 17″، ولا نعتقد أن بوسع أحد هنا القول بأنهم حين “اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها” ثاروا على حكامهم إن كان لهم حكام، وإنما اجتنبوا تلك المعبودات الزائفة، وعن فترة البعثة المحمدية يقول سبحانه وتعالى: “لا إكراهَ في الدين قد تبيّن الرشدُ من الغيّ فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها” “البقرة 256″، ولا أحد بوسعه القول إن أم القرى أي مكة ومن حولها كانت تعيش في ذلك الزمن في ظل حكام طواغيت أو غير طواغيت، فمكة لم تكن توجد فيها دولة أصلاً ليقال إن حكام تلك الدولة كانوا طواغيت.
ولدينا في الواقع حالة تستحق الوقوف عندها بتمعن في هذا السياق، وتتمثّل في قوله عز وجل: “ألم تَرَ إلى الذين يزعمونَ أنهم آمنوا بما أنزلَ إليكَ وما أنزلَ من قبلكَ يريدونَ أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا بهِ ويريدُ الشيطانُ أن يضلهم ضلالاً بعيداً+ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزلَ الله وإلى الرسول رأيتَ المنافقينَ يصدّونَ عنكَ صدوداً+ فكيفَ إذا أصابتهم مصيبةٌ بما قدّمت أيديهم ثم جاءوك يحلفونَ بالله إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً+ أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً” “النساء 60-63”.
مَن هو الطاغوت الذي أرادوا أن يتحاكموا إليه في هذه الحالة؟.. هل هو حقاً من يعظمونه من طواغيتهم بمعنى حكامهم البشريين أم هو الكاهن أو نظام الكهانة الجاهلي الذي يلجأ إلى “الجبت”، أو بتعبير آخر “الاستخارة” مدّعياً أنه يعرف بواسطتها إرادة الله كما هو الحال في الكهانة عند اليهود أيضاً؟.
الدلالة اللغوية لكلمة “الطاغوت”
من الواضح أن هذا المعنى الأخير هو المقصود، ومن هنا نفهم الدلالة اللغوية لكلمة “الطاغوت” على أنها تعني كما يرد في المعاجم العربية: كل رأس في الضلال يصرف عن طريق الخير، والشيطان، والكاهن، والساحر، وكل ما عبد من دون الله من الجن والإنس والأصنام، وبيت الصنم، وقد جاء الاشتقاق اللغوي من المصدر “طغى” بمعنى تجاوز الحد المعقول، هذا في المعاجم العربية، ولكن إذا نحن بحثنا عن أصول قديمة لهذه الكلمة، فسنجد أن كلمة teg-e/o في اللغة السلتية القديمة ترد بمعنى يغطي، وكلمة togo وكلمة tog-eje بمعنى غطاء، ونحن نعرف أن كلمة “كَفَرَ” في العربية تعني غطى، ما يعني التقاء الدلالتين في المعنى، ومن الطريف في هذا السياق أيضاً أن كلمة tagat في السلتية ترد بمعنى لص/ سارق، وفيها معنى تجاوز الحد والطغيان والسطو، وعليه نستطيع أن نفهم الموقف: إن تأليه أي شيء أو أحد عدا الله بأيّ نسبة من النسب إنما هو “طاغوت”، أي طغيان، أي كفر.
إن هذا المعنى يجبرنا عملياً على التفكير بالمنطق التالي: هل ستختلف الصورة إذا جاء من يقول لنا إن فلاناً من البشر، بحكم انتمائه إلى الحركة أو الجماعة كذا، يمثّل حاكمية الله على الأرض، وأن كل حكم يصدر عنه بصفته يمثّل هذه الحاكمية يكون مقدساً ولا يجوز لأحد الاعتراض عليه أو التنازع حوله؟.. فإن قالوا بوجوب إطاعة أولي الأمر في حاكميتهم قلنا لهم أما تمردتم على طاعة أولي الأمر من قبل بدعوى أنهم بشر وأن حاكميتهم بشرية، فهل جئتم إلى الحكم ببديل لا تنطبق عليه صفة البشر، وأوجبتم الطاعة العمياء له دون سواه؟.. أم اتخذتم من الادعاءات ما يمكنكم من السطو/ الطغيان على السلطة بهدف وضع يدكم عليها “سرقتها”، مدّعين أنكم تفعلون ذلك لصالح تحويلها من حاكمية بشرية إلى حاكمية الله لتفتروا بذلك على الله والناس؟.
أسئلة منطقية
إزاء منطق من هذا النوع أليس من حقنا أن نتساءل: ما هي صفة الشخص أو الأشخاص الذين تجري مبايعتهم ليمثّلوا حاكمية الله على الأرض أو ليزعموا تمثيل هذه الحاكمية؟.. ألا يمكن للآخرين اتهامهم على أساس دلالات كلمة طاغوت القديمة منها والحديثة والموغلة في القدم أيضاً على أنهم “طواغيت” تجاوزوا شرطهم البشري مدّعين ما لا يحق لهم أصلاً أن يدّعوه تماماً مثلما اتهموا جميع الآخرين دون استثناء؟.
وإذا لم يطلق الناس عليهم هذا الوصف، فهل سيكونون بعيدين عن تهم أخرى مثل تهمة ادّعاء أنهم “شركاء” لله؟.. يقول سبحانه وتعالى: “ألا إن لله مَن في السموات ومن في الأرض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظنّ وإن هم إلا يخرصون” “يونس 66″، وشبهة اعتماد بشر هنا ليكونوا شركاء واردة، وإن قيل إن ممثّليهم في الحاكمية هم أناس أتقياء أنقياء ذكرناهم بقوله تعالى: “إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين+ ألا لله الدين الخالصُ والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذبٌ كفار+ لو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه وتعالى هو الله الواحد القهار” “الزمر 2-4”. فإذا كان الله سبحانه وتعالى لم يتخذ ولداً ولم يعتمد أحداً ليكون حاكماً باسمه وليتخذه بعض الناس ولياً ليقربهم من الله زلفى فكيف اعتبروا حاكميتهم تمثّل حاكمية الله؟.
إن جوهر المشكلة إذاً هو في اتخاذ شركاء، وسواء قيل إن هؤلاء يقربون إلى الله زلفى، أو قيل إنهم يمثّلون حاكمية الله، فالشبهة تبقى واحدة، وما يجعلنا نميل إلى الاعتقاد بأن سيد قطب وصل عملياً إلى منطق إعطاء جماعته صفة الشركاء، قوله إنه “بعد أن تبني الحركة المجتمع المسلم الذي يقر عقيدة: لا إله إلا الله، وإن الحاكمية ليست إلا لله، وحين يقوم هذا المجتمع فعلاً تكون له حياةٌ واقعية، وعندئذ فقط يبدأ هذا الدين في تقرير النظم وفي سن الشرائع”، وهذا القول لابدّ أن يذكرنا بقوله تعالى: “أم لهم شركاءٌ شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم” “الشورى 21″، فالشركاء المشار إليهم هنا هم بشر، وقيامهم بـ “تقرير النظم وسن الشرائع” لا يمكن أن يفهم عملياً إلا على أنه إقحام لنظم وشرائع جديدة على الدين الإسلامي، إذ إنه لو كان الأمر قائماً على الالتزام بالقرآن والسنة فما الحاجة إلى ذلك؟.
الشبهة قائمة
وتبقى شبهة الشركاء أيضاً قائمة في ضوء قوله عز وجل: “قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل اللهُ يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يُتبعَ أمّن لا يهدي إلا أن يُهدى فما لكم كيف تحكمون+ وما يتبع أكثرهم إلا ظناً إن الظن لا يغني عن الحق شيئاً إن الله عليم بما يفعلون” “يونس 35و36″، وفي التفاسير أن هؤلاء الشركاء هم آلهة وأوثان المشركين، ولكن من حقنا أن نتفكر مليّاً في قوله تعالى: “أمّن لا يهدي إلا أن يُهْدى” فكيف يُمكن لآلهة على شكل أوثان وأصنام وافتراضية أن تُهدى؟.. فالأرجح هنا أن الإشارة هي إلى كهنة اليهود والمشركين الذين يدّعون معرفة إرادة الله بالتنبؤ، وبهذا المنطق يكونون قد وضعوا أنفسهم في وضعية الشركاء.. وما يرجح ذلك ما ورد عن اتباع الظن، إذ إن ما يتكهن به هؤلاء ليس إلا ظناً، وفي هذه الحالة يمكننا أن نفكر في أناس يريدون أن يمارسوا في الإسلام منطق الكهنة اليهود أو كهنة الوثنيين في ادّعاء تمثيل الإرادة الإلهية سواء استخدموا أدوات التكهن والتنبؤ المعروفة، أو ادّعوا لأنفسهم الحق في التعبير عن الإرادة الإلهية دون الآخرين من خلال ادعائهم تمثيل حاكمية الله على الأرض، فمن يبح لنفسه “تقرير النظم وسن الشرائع” باسم الدين بعد أن يمسك بالسلطة مدعياً أنه يمثّل حاكمية الله، يكن عملياً قد اعتدى على حاكمية الله بدلاً من أن يكون قد اهتدى بأحكام الله، وشتان بين الحالتين.
خلاصة القول إن ما ذهب إليه سيد قطب عن كون من سيمثّلون حاكمية الله سيكون بوسعهم “سن الشرائع” يأخذنا إلى شبهة اعتبارهم “شركاء”، وتلك مشكلة كبرى بالتأكيد.
وثمة شبهة أخرى يثيرها منطقه، وهي شبهة “الأنداد”، والند: المثل والنظير، وقيل الند: الضد والشبه.
يقول سبحانه وتعالى: “يا أيها الناسُ اعبدوا ربّكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون+ الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماءَ بناءً وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون” “البقرة 21و22″، وهنا قد يفهم البعض أن الأنداد آلهة تعبد من دون الله، ولكن قوله تعالى: “وأنتم تعلمون” من شأنه أن يثير التساؤل عن هوية من يجعلون لله أنداداً وهم يعلمون، فمن ادعى أنه يمثّل حاكمية الله إنما يجعل لله أنداداً وهو يعلم، فإن لم يؤد هؤلاء دور الضد، فإنهم قد يؤدون دور المثل، أو دور الشبه، وهذه إشكالية كبرى أيضاً.
وعن كون هذه الإشكالية تتعلق بالأنداد المزعومين من البشر، وليس بالأصنام والأوثان والآلهة الافتراضية، نذكر بقوله عز وجل: “ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحبّ الله والذين آمنوا أشدّ حباً لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذابَ أن القوة لله جميعاً وأن الله شديد العذاب+ إذ تبرّأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذابَ وتقطعت بهم الأسباب” “البقرة 165و166″، فمن الواضح هنا أن الأنداد الوارد ذكرهم هم من البشر، وأن من اتخذوا منهم أنداداً “يحبّونهم كحبّ الله”، بينما الذين آمنوا “أشد حبّاً لله”، وهنا من حقنا أن نتفكر في وضعية البشر الذين يعتبرون حاكميتهم هم بالذات حاكمية الله، وكأنهم جعلوا ممّن يتولون هذه الحاكمية “البشرية واقعياً” في مرتبة الأنداد.
ويقول سبحانه وتعالى أيضاً: “وجعلوا لله أنداداً ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار” “إبراهيم 30″، ومن قال بالتمرد على أولي الأمر بدلاً من الالتزام بأمر الله القائل بإطاعة أولي الأمر سعياً وراء ما ادعى أنها “حاكمية الله”، إنما حكمه حكم من يضل الناس عن سبيل الله، وإن الذين يسعى إلى تمكينهم من الإمساك بالسلطة بذريعة أن لهم الحق في تمثيل حاكمية الله على الأرض إنما يمثّلون دور الأنداد.
وهكذا نكتشف أن المنطق الذي طرحه سيد قطب، وتبنته بعض الجماعات والتنظيمات، وراحت تردده تحت شعار “إن الحاكمية ليست إلا لله”، من شأنه أن يثير حول من تبنوا هذا المنطق الكثير من الشبهات، فحاكمية الله كما أسلفنا مطلقة شاء البشر ذلك أم أبوا، ومن ينكر كونها مطلقة فيحولها إلى سلطة أرضية بأية صفة من الصفات أو كان يدّعي اكتسابه أو اكتساب جماعته صفة تخولهم الادعاء بتمثيلها على نحو حصري، إنما يوقع نفسه وجماعته تحت شبهات اعتماد الشركاء والأنداد، وهو ما يصنف على أنه ضلالة.