دعوات لإنتاج نموذج تنمية محلية يساهم في خلق الفرص بعيداً عن التقليد
تقول إحدى الدراسات الميدانية: إن 43 قرية في ريف السويداء تعاني من نقص في عدد السكان بسبب الهجرة إلى المدينة.
القرى التي أشارت إليها الدراسة هي قرى محيطية، أي على طول خط الحدود الإدارية للمحافظة، وبكافة الاتجاهات، وإن كانت الأسباب متنوعة حسب طبيعة كل اتجاه، إلا أن القاسم المشترك بينها هو تردي الوضع الاقتصادي لسكان تلك القرى.
“البعث” جالت على عدد من قرى الريفين الشرقي والغربي للمحافظة، حيث ثمة دلائل ومؤشرات واقعية تدل أن الوضع الديمغرافي للمنطقة ليس بخير، فصعوبة العيش في تلك الأماكن، وقسوة التعامل مع الطبيعة، وتهديدات زحف الصحراء، عوامل تدفع العديد من الأسر للهجرة إلى المدن أو القرى المحيطة بها!.
عيش قاس
أبو يزن ترك قريته التي تبعد عن مركز المدينة نحو 30 كم، والهدف تعليم أبنائه في مدارس المدينة والكليات، وتكاليف النقل من بلدته إلى تلك المدارس والكليات باهظة، فوجد الاستئجار في المدينة الحل الأنسب، والقضية التعليمية ليست الوحيدة التي دفعت أبا يزن للهجرة عن قريته، فطبيعة الجغرافيا هناك، وظروف العيش القاسية، وعدم الاهتمام الحكومي بتلك المنطقة، عوامل أخرى دفعته للتوجه نحو المدينة!.
يقول أبو يزن: إن القرية هي السلة الغذائية للمدينة، وبالتالي فإن إهمالها هو إهمال للاقتصاد الوطني، وهذا الإهمال أدى إلى هجرة الناس من القرية إلى المدينة، وهذا انعكس سلباً على الواقع الديمغرافي، حيث تحول الفلاح من بيئته إلى بيئة الأعمال الحرة، وهذا يشكّل خللاً ديمغرافياً ينعكس على الاقتصاد بشكل عام، وبالتالي فإن المطلوب، حسب أبي يزن هو تثبيت المزارعين في القرى لضمان استمرار العملية الزراعية، وهذا يتطلب مساعدة هذا المزارع عبر تسويق إنتاجه، ودعمه بالقروض، وإقامة مشاريع تنموية تؤمن فرص عمل، عوامل تساهم في تحسين الواقع الاقتصادي للأسر الريفية.
نقص سكاني
حالة نمو مطرد وملحوظ في المدن والبلدات المجاورة لها على حساب القرى الصغيرة والبعيدة، حالة تؤثر على التوزيع الجغرافي للسكان بين المناطق الإدارية، وبالتالي التأثير على السمات، والعملية السكانية.
في دراسة أجراها مكتب التنمية المحلية في السويداء تبيّن أن 43 من قرى المحافظة تعاني من نقص عدد السكان، وقد اعتمدت الدراسة على عدد طلاب المدارس في مرحلة التعليم الأساسي، وتبيّن أن أغلب القرى التي يوجد فيها نقص سكاني هي قرى حدودية محاذية للبادية، والقرى الشمالية الغربية المحاذية للجاة.
وبالمقابل هناك 74 تجمعاً توجد فيها زيادة ملحوظة مثل مدينة السويداء، حيث زاد عدد سكانها بنسبة 43% عن عام 2010، ومدينة شهبا بنسبة 38%، وهناك قرى قريبة من المدينة مثل الرحى التي زاد عدد سكانها 67%، ومصاد 56%.
يقول المهندس فراس البعيني، مدير مكتب التنمية المحلية: إن الزيادة غير الطبيعية في مدن وبعض قرى المحافظة سببه حالة الهجرة الداخلية، وأوضح البعيني أن قضية التنمية الريفية من القضايا المهمة، حيث معظم الذين يهاجرون من الريف يهاجرون حسب الدراسات بحثاً عن عمل، إضافة إلى المشاكل التي يعاني منها الريف، وأهمها المشكلات الاقتصادية، والاجتماعية، والخدمية.
وبيّن مدير مكتب التنمية أهمية تكثيف الجهود في وضع خطط استراتيجية للتشجيع على تثبيت السكان بقراهم، والحد من الهجرة للمدن الكبرى، وذلك بإقامة برامج استهدافية تتضمن مشاريع تنموية جديدة تتواكب مع النهضة الاقتصادية كإنشاء مدن صناعية بالقرى، وتسهيل القروض الزراعية والصناعية في تلك المناطق على غيرها من المدن الكبرى، ويتطلب الأمر أيضاً توفير بيئة تعليمية وصحية من خلال الاهتمام بالكادر التدريسي في المدارس، وكذلك كوادر المراكز الصحية، ومراكز الإسعاف، ودور الرعاية الاجتماعية، ودعم النشاط المؤسسي للمجتمع المدني بالقرى التي سوف تكون مؤسسة للنشاط التجاري والاجتماعي لما تحققه من أمن اجتماعي، كما يتطلب الأمر أيضاً توفير شبكة مواصلات زراعية لنقل المنتجات، وأعتقد أنه من الأهمية أن تتناسب طبيعة كل منطقة مع كل مشروع، سواء كان ذلك مشروعاً اقتصادياً، أو زراعياً، أو صحياً، وغير ذلك، بمعنى أن تتميز كل منطقة بمشاريع تتناسب مع ظروفها وطبيعتها مثل: (مناطق سياحية)، (مناطق تعليمية عالية)، (مناطق زراعية)، (مناطق صناعية).
مناطق جاذبة
سكان المنطقة يعتمدون بشكل رئيسي على الزراعة بشقيها النباتي والحيواني، ولكن في السنوات الأخيرة، وبعد سيطرة الجفاف على المنطقة، وزحف الصحراء إلى حدود المنطقة، فإن ذلك جعل السكان يتركون أراضيهم بحثاً عن مصادر رزق جديدة، والحل، حسب رئيس بلدية أم رواق، هو الآبار الزراعية، وإقامة المشاريع التنموية، فالمشكلة الأهم التي يعاني منها الريف هي قضية انحياز سياسات الدولة لتنمية المدن على حساب الأرياف، والقرى النائية، وبالتالي لابد من الاهتمام بالتنمية الريفية بما يحول الأرياف من مناطق طاردة إلى مناطق جاذبة ومشجعة على الاستقرار، والعمل على الحد من البطالة في القرى، وذلك بتشجيع قيام الصناعات والمشروعات الصغيرة عن طريق توفير التمويل اللازم، وإزالة كافة المعوقات، وتوفير الخدمات الضرورية لمواطني الريف.
حياة متكاملة
يقول وليد العقباني، وهو أمين فرقة حزبية في قرية أم رواق في الريف الشرقي للسويداء: إن ما يحتاجه المواطن حتى يبقى في مدينته أو قريته مرتاحاً ومهتماً بمسألة إقامة المسكن، وضمان الحياة المتكاملة له ولأسرته، هو الاستمرار في تقديم المشاريع التنموية، ولاسيما ذات الصلة بالخدمات، بحيث يتمكن من خلالها من العيش بها، وعدم الانتقال إلى المدن، فهناك فرص العمل، والطرق، والجامعات، والمعاهد، والمدارس، ما جعلها مقصداً لكثير من المواطنين الذين وجدوها فرصة ذهبية للاستفادة من تلك الخدمات، فينتقل المواطن ليعيش فيها وربما يؤثر على أقربائه.
ولا شك في أن علاج مثل هذه المشكلة يتمثّل بتوفر المدارس والمعاهد المتخصصة، وكذلك بالإمكان جعلها مدناً تخصصية كأن تكون زراعية، أو صناعية، بحيث تفتح فيها المدن الصناعية كي تتوفر فيها الفرص الوظيفية، ويشير العقباني بوضوح إلى مسألة هامة وهي نقص الكوادر التعليمية تجعل المواطن يذهب إلى المدينة بحثاً عن فرص تعليمية أفضل.
تنمية تشاركية
مستشار تطوير أعمال مركز الأعمال والمؤسسات السوري، الدكتور هشام خياط يقول: إن موضوع التنمية ينطلق في كل منطقة بحد ذاتها حتى لو كانت وحدة إدارية صغيرة، ولابد أن تكون هناك تنمية محلية قائمة على أسس علمية، وتستند إلى المقومات المتوفرة في المنطقة، وأن تكون هذه التنمية تمكينية وتشاركية، بحيث يشارك السكان المحليون في صياغة مستقبلهم، ووضع توجهاتهم بعيداً عن البرامج التنموية التي تأتي من المركز كهبة.
وبيّن خياط أن الريف بحاجة اليوم إلى جهد محلي قائم على الفعاليات والقدرات المحلية لإنتاج نموذج تنمية محلية يساعد السكان على تمسكهم بأرضهم وفرصهم بعيداً عن التقليد، فلكل منطقة خصوصيتها وقدراتها وإمكانياتها، ولابد من اكتشاف البيئة التمكينية الحقيقية للاقتصاد بالمنطقة، وصياغة نموذج محلي بالاعتماد على القدرات والإمكانيات البشرية، والبحث عن تحقيق تنمية مستدامة عبر خلق وإبداع أفكار، وعدم انتظار تنمية اتكالية تعتمد على المركز، بل خلق أفكار تحث المركز على العمل.. إذاً الموضوع بالنسبة للدكتور خياط ينطلق من تمكين الوحدات الإدارية بالبنى، وتحويلها من وحدات خدمية إلى وحدات تنموية، وهذا يتطلب وجود دوائر خاصة بالاستثمار والتنمية والتمويل في كل بلدية، مهمتها التواصل مع المجتمع المحلي، والمستثمر المحلي، وخلق حالة تنموية محلية تشاركية، والتحول من حالة التنمية الاتكالية والوحدات المستهلكة إلى وحدات تنموية منتجة وفاعلة.
هجرة قروية
انتقال المواطن من القرى للمدن كان قبل سنوات حلماً يراود الكثير من سكان القرى لأسباب عديدة منها: قلة المدارس بمختلف مستوياتها، وكذلك الخدمات، وقلة فرص العمل، وعدم توفر الأسواق التي يجد فيها المواطن حاجاته من السلع، وعدم اتصال المدن بالقرى عبر شبكة من الطرق، ولذلك كله وغيره كان المواطن يطمع في الرحيل عن القرى إلى المدن بحثاً عن مكان آمن تتوفر فيه كل المظاهر الحضارية التي يحتاجها في يومه وليلته.
تقول مديرة مركز فيليبيوس للتنمية ميرفت أبو زيدان: إن الهجرة القروية هي واحدة من أكثر الهجرات انتشاراً، والمقصود منها هو خروج سكان الريف، وانتقالهم للعيش والاستقرار في المدن والمناطق الحضرية بحثاً عن حياة أفضل من ناحية اجتماعية، واقتصادية، وتعليمية.
وأسباب الهجرة، حسب أبو زيدان، انخفاض في أسعار المنتجات الزراعية، لأن الزراعة هي المصدر الأساسي لهم، والفجوة في الخدمات الاجتماعية مع المدن مثل المستشفيات المتقدمة، والمرافق العامة، والمؤسسات الحكومية، والمراكز التعليمية، وهذا يؤدي، حسب أبو زيدان، إلى نقص الأيدي العاملة في الأراضي الزراعية الريفية، ما يؤدي لتدهور الغطاء النباتي في تلك المناطق، وارتفاع أسعار السلع، والإسكان، والنقل في المناطق الحضرية نتيجة زيادة الطلب، وكسر القيم الأسرية، والموروثات الثقافية في المناطق الريفية، وكذلك التدهور الاقتصادي في المناطق الريفية نظراً لعدم الاستفادة من الموارد بسبب نقص الأيدي العاملة.
ولحل مشكلة الهجرة من الريف إلى المدينة، حسب أبو زيدان، لابد في البداية من بتر الأسباب التي تؤدي لأفضلية المدن، أو التقليل منها، والعمل على ألا تكون الأرياف مهجورة حتى وإن حصلت الضرورة للعمل في المدن، ولابد أن يكون هناك ما يكفي من خدمات في الأرياف كالخدمات الصحية، والتعليمية.
والأهم هو نقل جزء من الأعمال التي في المدينة إلى الريف بشكل مصغر مثل خدمات طبية، ومراكز تعليمية وثقافية، مثلاً يكون هناك معهد أو جامعة، ويمكن أيضاً العمل على تشجيع الاستثمار في المجالات الزراعية، والإنتاج الحيواني، والأعمال اليدوية، وذلك بتخصيص نسبة دعم خاصة بالمزارعين، ورعاة الماشية، ووضع حوافز للاستثمار.
مراكز حضرية
قد لا تغيب عن الذهن بعض المبادرات التي تصب في اتجاه الريف تحت مسميات عدة كإنعاش الريف، وتنمية الريف، والمرأة الريفية، وغيرها من المبادرات التي يمكن وصفها بعشوائية الإدارة والهدف، وبالتالي لابد من جمع تلك المبادرات عبر مسمى واحد، وهنا لابد من إطلاق مبادرة حكومية لإنعاش ريف السويداء عن طريق إحداث مراكز ريفية تنموية، الغرض منها تقديم المساعدة للنهوض بالريف من خلال دراسة المدخلات التنموية لكل وحدة ريفية، وخلق حالة تشاركية مع المجتمع المحلي يكون عمادها تلك الوحدات، والانطلاق نحو نهضة تنموية ريفية يكون شعارها الريف للجذب لا للطرد، فهل سنصل يوماً لنكتب عن الهجرة من المدينة إلى الريف؟!.
رفعت الديك