وطن قيد الطبع
د. نهلة عيسى
أمس, وعيوني المنهكة تعباً ونعاساً, تهرول في دروب اللحظات المذبوحة على محراب نشرات الأخبار, الأشبه بالنعوات, تذكرت فجأة, كرنين صفعة, كل الأشياء التي كنت أريد تجربتها وخوض غمار عيشها, فور ترجلي من وعورة دروب العلم, وعودتي من غربة الجسد والروح, إلى دفء الوطن, ووضوح الطريق, والملامح المُفَسرة لحياة كان يجب أن تكون رائعة.
تذكرت الأحلام التي كنت قد بدأت بترتيب مفرداتها, والتي كانت أشبه بخطة عيش لعاشق طريد, وجد حبيبته بين ذراعيه للمرة الأولى, فنطق الكون كله من حوله لغة واحدة, لغة مشاعره وحواسه, وذاك الدوار العذب, الذي يحول حضن الحبيبة إلى وطن, يقصه الشوق للعيش فيه.. قطعتين, ويأمل بعد العيش الطويل, أن يدفن تابوته فيه!؟
تذكرت الأحلام, وكيف رسمت معظم ملامحها في القطارات التي كانت تقلني في مدن الغربة المثقلة بالوحشة, حينما كانت دموعي تنهمر في قلبي, وكان الطريق إلى الوطن مرصوفاً بقرارات إدارية, تنص على ذبحي حية, فيما لو غامرت بإعلان الدكتوراه, غلطة مطبعية, في عمر قصير, القدر فيه يعشق النهايات الغامضة, ووحده فعلاً (القدر) من يستحق جائزة نوبل للرواية, رغم عدم مبالاته بالجائزة, لأن”ألفرد نوبل” بجلال قدره, في قائمة ضحاياه!؟
تذكرت, كيف كنت أحلم بالتدفق كقطرة دم صغيرة داخل شرايين الوطن, لأستعيد ذاكرة الطيران والفرح والضحك من القلب, ولأصل إلى قلب الشام القديمة حيث تضيق الأزقة, فتتسع ضربات قلب البساطة والسكينة والبهجة العلنية العفوية, حيث رائحة البصل المقلي مهرجان ألوان, يعد بمائدة شهية, وبملاقاة السيدة المدللة العصية “السعادة”, بل حتى بملامستها, لمجرد أنك تشم!؟
تذكرت, يوم هبطت من طائرة الغربة, وأحلامي وتصميمي على عيشها في يميني, كيف بدت لي أيدي الملوحين الفرحين بوصول أحبائهم, كأجنحة نورس, يحلق فوق البحر, ويهدي إلى ضفافه؟ ولكن ماكدت أغسل غبار الغربة الطويلة, وأفتح حقائب السفر, لأرتب أمتعة الغد حيث يجب أن تكون, اصطادت رصاصة قناص الحقيبة, ومسح السير على رؤوس الأصابع خوفاً من إزعاج بندقية إرهابي, كل حبر أحلامي, والتهمت القذائف والحواجز والمتاريس ونعوش الأحبة والأبناء, كل المفردات, وقماش صناعة الغد, ووجهاً كنت قد حددت تضاريسه بريشة فنان ملهم, لرجل كان يجب أن يكون حبيباً!؟
تذكرت, كيف بعد سنين طويلة من قول كلمة “وداعاً” للوطن, بنبرة من يقول: “أحبك”, كيف رمتني منذ سبع سنوات ونيف, غربة الجسد على عتبات التيه في الوطن, حيث كل الملامح أذكرها, وكل الوجوه غريبة, وصدر الوطن مفروش بالمسامير, وكل الأحبة يبتسمون في وجهي, وأنا أودعهم مقتولين, وكل سلام أرد عليه, تلوح لي به أيادي مبتورة!؟
تذكرت, كيف أنني منذ سبع سنوات, أتجول عارية من كل الأحلام, وأكتفي بالعيش على فوهة الأمل, بأن لا تحولني “بغتة” قذيفة أو رصاصة أو غضب قادر فاجر, إلى اسم مبني للمجهول, ولذلك الآن.. وحتى إشعار آخر, أكتفي بالهرولة خلف صاحب الظل الطويل “الوطن”, أحاول ترميم الجراح, ولصق أقدام أحلامي المقطوعة, ورتق الوجوه والملامح والمشاعر والدموع, والتظاهر بالعيش فوق ضرس الموت, حيث الممكن والمتاح هو أسلوب عيش يشبه التحدي, إذ ماذا يمكن أن تفعل حين يكون جريحك.. وطن؟ وبماذا يمكن أن تستبدله, سوى بالحلم أنه سيأتي يوماً ستشهد فيه ختام مواويل الصبر والحزن, حيث يمكن للمرء حينها, إعادة تركيب الوطن, كلمة على كلمة, وحجر على حجر, وقلب مع قلب, ويداً بيد, بدون توسط من يد غريبة, وحيث يمكن تذكير كل السوريين, أن للواحد منا ربما ألف حبيب, لكن ليس لنا جميعاً, سوى وطن واحد, وآن أوان طبعه من جديد.