يا دجلة الخير (1)
د. نضال الصالح
بينما أستعيد صورة خزامى، حبيبة صديقي سامي، التي كان هامَ بها منذ السنة الأولى لدراستنا في الجامعة، ولم يكن يدع فرصة ليحدثني عنها، ويتمنّى عليّ أن أكتب له ما يليق بعاشق سحرته صبية لم تلد النساء مثل فتنتها فتنة، بتعبيره، وأحلى، أحلى ألف مرّة من بلقيس نزار قبّاني. صبية ممشوقة القدّ كما نخلة فارعة. بينما كنت أستعيد صورتها كان صوت الجواهري يصدح من غير جهة في قِفار القلب، فأردّد معه:
“حييتُ سفحكِ عن بُعدٍ فحييني
يا دجلة الخير يا أمّ البساتين
حييتُ سفحكِ ظمآناً ألوذُ به
لوذَ الحمائم بين الماء والطينِ”
ثم ما يلبث الصوت أن يرتدّ إلى القلب شفيفاً كما يسّاقط مطرٌ ناعم في جمر آب:
“يا أمّ بغدادَ من ظُرفٍ ومن غنَجٍ
مشى التبغددُ حتى في الدهاقينِ
يا أمّ تلك التي من ألف ليلتها
للآنَ يعبقُ عطرٌ في التلاحين”
سامي صديق الدراسة في الجامعة قبل ثلاثة عقود خلت، هنا في الشام، أعني أيام الشباب الذي ليته يعود يوماً، فأخبره بما فعل المشيبُ، وكان أرقّ من نسمة، وأعذبَ من ماء فرات، ولا يتردّد في البوح بما في قلبه وبما يزدحم من الكلام على لسانه، وكانت خزامى استقرّت مع أسرتها في الشام نهاية السبعينيات من الألفية غير المأسوف عليها بتعبير خزامى التي ما إنْ عرّفها سامي بي، حتى بدتْ لكأنها تعرفني منذ سنوات، ولذلك انهمرت في الحديث عن السنوات التي ذاقت فيها، وأسرتها، ومعظم أبناء وطنها، قسوة الحصار ووحشيته ووطأته على العراق.
عندما رأيت خزامى أوّل مرة بدا لي أنّ سامي كان عليه أن يختار الدراسة في قسم اللغة العربية بدلاً من دراسته الفيزياء، فقد كان وصفه لها أشبه بوصف شاعر رقيق، بل أشدّ رقة من شعراء الغزل العذري، وغير العذري، في التاريخ كلّه، لا لأنّ خزامى كانت جديرة بما كان يصف فحسب، بل، أيضاً، لأنّه كان شديد الرهافة في اختياره المفردات والعبارات التي تليق بها، سحراً، بل فتنة، وعذوبة تفيض من كلّ شيء فيها ومنها، ولذلك كنت أقول له: “لن أكتب لك رسائلك إلى خزامى بعد اليوم، اكتب ما تحكيه لي عنها فقط، وستجدها شهرزادك يا شهريار زمانك”، وكان سامي يضحك، ويضحك، حتى يضحك كلّ شيء حولنا، حتى الجماد، وحتى يسارع سامي إلى الطلب إليّ من جديد: “كرمى لعيني أمّك اكتبْ”، وكان يعرف أنّ أيّ شيء يستحلفني بأمّي من أجله يعني أن أستجيب له من دون أيّ تردد، أو استبطاء، أو تأجيل.
في حفل التخرّج الذي أقامته الجامعة، قبل ثلاثة عقود من الآن، أعني وأنا أيمم الآن نحو بغداد، حضرت خزامى ملتفة بعباءة فادحة السواد، حرصتْ، كما قالت، على ارتدائها لتجمع بين فرحين: التخرج، وقرار أبيها في العودة إلى بغداد مهما يكن من أمر قسوة الحصار الذي كان العراق يرزح تحت وطأته الغاشمة، وعلى الرغم من أنّ الأسرة وجدت في الشام حضناً رؤوماً كما اعتادت الشام أن تكون…. (يتبع).