أمريكا.. والمعادلات الدوليــــة الجديـــدة
مثّل رفض قادة أوروبا للإملاءات الأمريكية بخصوص إلغاء الاتفاق النووي مع إيران نوعاً من الصحوة التي أدخلت القارة العجوز في طور البحث عن مخارج من تحت العباءة الأمريكية، والتعامل بالمثل مع واشنطن التي تحاول نفخ عضلاتها على حساب من كانوا منفذين لكل ما يُملى عليهم على مدار عقود من الزمن، ولم يجنوا من وراء تلك التبعية سوى الخسائر والأزمات حتى في بيتهم الداخلي.
ذلك يؤكد أن مرحلة الفوضى الاستراتيجية التي سادت خلال سنوات الحرب على سورية أصبحت في طور الأفول، ومعها سنودّع الأحادية القطبية والهيمنة الأمريكية على القرار العالمي، عبر تشكيل تحالفات جديدة، عنوانها العريض وضع المصلحة الوطنية للدول فوق أي اعتبار آخر، وبالتالي فإن سياسة الإملاءات والقوالب الجاهزة لم تعد تجدي نفعاً في قادم الأيام، حيث إن الأوروبيين، الذين فرض عليهم ترامب ضرائب قد تدمّر اقتصادهم، لم يعد أمامهم من سبيل سوى المواجهة، وهذا سيفضي إلى نتائج لم يكن الرئيس الأمريكي يحسب لها حساباً، حيث إن أمريكا من دون حلفائها لن تكون قادرة على إحداث التأثير المطلوب على دولة بحجم إيران.
ترامب الذي يتخبّط في سياساته، ويضرب خبط عشواء، وبعد أن غسل يديه من أوروبا التي رفضت تطبيق العقوبات على طهران، وتبحث عن وسائل لإنقاذ الاتفاق، لم يجد سوى أنظمة الخليج كأداة يستخدمها للاستمرار في مخططه، حيث أوعز لنظام آل سعود بزيادة إنتاج النفط بنحو مليوني برميل يومياً، ولأن هؤلاء تعوّدوا الانبطاح أمام أمريكا، ويعتبرون أوامر ترامب واجبة التنفيذ، ويعلمون أن قول: “لا” بوجه سيد البيت الأبيض سيكون مكلفاً لنظامهم، كما درجت العادة، تعهّدوا بالتنفيذ، وهذا خلق لهم أزمات جديدة، خاصة بعدما هددت طهران بمنع مرور شحنات النفط عبر مضيق هرمز في حال منعها من تصدير نفطها، ولاقت الجهود الساعية للحفاظ على الاتفاق النووي عبر تحركها سياسياً باتجاه أوروبا بعد الحصول على ضمانات منها تخفف من أعباء العقوبات الأمريكية.
حنكة الدبلوماسية الإيرانية من خلال اتباعها سياسة النفس الطويل مع عنجهية ترامب جعلتها تسجّل نقاطاً في أكثر من اتجاه، فهي حازت على ثقة أوروبا، وجعلت النظام السعودي يفكر طويلاً قبل الإقدام على أية خطوة متهورة تجعله في مهب الريح، وهي نتيجة حتمية لكل من قدّم مصالحه الشخصية على علاقاته الخارجية، حيث لم يبق لنظام آل سعود أية ورقة يتلظى بها، إن كان مع جيرانه العرب أو في محيطه الإقليمي، وهذا يجعل الرئيس الأمريكي وأدواته في الخليج أمام خيارات خاسرة إن استمر في التصعيد مع إيران، أو تراجع عن قراره، ففي الحالة الأولى نجد ترامب قد استنفد كل ما في جعبته من أوراق ضغط، ولم يبق سوى إعلان الحرب، وهو أمر لا تستطيع أمريكا تحمّل تبعاته.
إذاً هي مرحلة عض أصابع، ستحاول الإدارة الأمريكية خلالها الضغط والبحث عن صفقات جديدة في المنطقة بما يحفظ ماء الوجه، ولكن ما سيحدث في ضوء معادلات الميدان العسكري والسياسي، فإن إيران لن تتفاوض من جديد مع أمريكا، وروسيا ليست في وارد تقديم أي تنازلات لإدارة ترامب، أما سورية فقد باتت قاب قوسين أو أدنى من تحقيق الانتصار على الأدوات الإرهابية، والتوجّه نحو طرد كل القوات الأجنبية المتواجدة على أراضيها بشكل غير شرعي، وهذا يعني بالنتيجة هزيمة جديدة لأمريكا، وانتصاراً آخر سيسجل لمحور المقاومة، وسيكون بداية لتحولات سياسية على الساحة العالمية لن تكون فيها أمريكا القوة العظمى الوحيدة، والأشهر القليلة المقبلة ستوضح المشهد أكثر.
عماد سالم