ثقافةصحيفة البعث

“الناقوس الزجاجي”.. عندما تغدو الحياة مجرد “حلم فظيع”

 

“كيف سأعرف أن الناقوس الزجاجي سيهبط ذات يوم، في الكلية، في أوروبا، في مكان ما، في أي مكان بتشوهاته الخانقة ثانية” وهو الحدث الذي استطاعت سيلفيا أو أيستر أن تمنعه ذات يوم وربما لأكثر من مرة، كي تستعيد ذاتها وتسيطر على قلمها لتكتب عنه وعما يمكن أن يُحدثه في الروح والعقل من شقوق وندوب، تكتب بصدق وشفافية يندر أن يقوم بها أي كاتب حتى في أشد حالات شجاعته، ذلك أن العالم الذي رأته بعينيها وعاينه العقل عن قرب لم يكن سوى “حلم فظيع”.

في نيويورك

لن يكون خبر إعدام آل روزنبيرغ” هو أسوأ شيء في الوجود بالنسبة للفتاة، مع أنها اعتقدته كذلك، إذ أن الأحداث ستسير على غير ما يرام رغم الظروف الجيدة التي تحيط بحياتها: “كان حرياً بي أن أكون في غمرة أزهى فترات حياتي، وكان من المفترض أن أكون موضع حسد آلاف من فتيات الجامعة الأخريات، ممن هن على شاكلتي في كافة أنحاء أمريكا” وتكمل بلاث صاحبة الرواية/ السيرة التي تكتبها، قد يقول قائل: “انظروا إلى ما قد يحدث في هذا البلد، فتاة تعيش في بلدة نائية لتسع عشرة سنة، فقيرة لدرجة أنها لا تقدر على شراء مجلة، ثم تحصل على منحة جامعية، وتفوز بجائزة هنا، وبأخرى هناك، وينتهي بها المطاف وهي تقود نيويورك كما لو أنها سيارتها الخصوصية، غير أني لم أقد شيئاً، ولا حتى نفسي”.

لم تشعر إستر سوى بالتخبط وكأنها “باصٌ كهربائي فقد القدرة على الحركة الطبيعية” لم يشعرها الأمر بالإثارة والزهو المفترضين، بل لعلها باتت غير قادرة على التفاعل مع الفرح والسعادة المتوقعة “كنت خاوية، ساكنة، دونما حراك”.

سيرة متداخلة

هكذا سنتابع في “الناقوس الزجاجي” رواية “سيلفيا بلاث” الوحيدة التي نشرت في العام 1962 تحت اسم “فيكتوريا لوكاس” المستعار، سنتابع سيرة حياة فتاة أمريكية هي في واقع الأمر حياة بلاث نفسها، بينما تتعرض حياتها لمنعطف بالغ الخطورة ويضعها الانهيار العصبي على حافة الهاوية ولا شيء في محيطها يمكن له أن يشير إلى ذلك. هي التي حققت خلال فترة قصيرة ومنذ بداياتها قفزات حسدتها عليها الفتيات ممن في عمرها وقد فازت في مسابقة لمجلة شهيرة في الموضة، ما أهلها للذهاب إلى نيويورك مدينة الأحلام حيث تتعرف إلى مظاهر الحياة فيها وخفاياها، ثم يحدث الانهيار التام إثر عودتها إلى البلدة  للعيش مع والدتها، إذ تشعر وكأن العالم في داخلها قد أصيب بالعطب، وبات كل شيء حولها يتهاوى، هل يمكن لأحد تخيل ما يجري في عقل فتاة حين تفكر في سرها وتنظر إلى تلك التي تنام إلى جانبها: “لقد أزعجني هذا الصوت الأقرب إلى صوت الخنزير، ثم خطر ببالي أن الطريقة الوحيدة لوقف هذه الضوضاء هي أن أمسك العصب والعضلة معاً حتى تقع أمي هامدة بين يدي”.

في رسائل بلاث إلى طبيبتها النفسية والتي أصبحت صديقة مقربة لها، تشير بشكل ما إلى أحد أهم أسباب لجوئها إلى الانتحار مستقبلاً، وإن بشكلٍ موارب حين تخبرها عن العنف الذي بات يغلف زواجها و”تيد هيوز” الشاعر الإنكليزي المعروف، والذي كان أتلف يومياتها التي دونتها في الفترة التي سبقت الانتحار، بعد أن كشفت الخيانة المزدوجة التي تعرضت لها من قبله وجارتها المقربة “آسيا” وللمفارقة ستلاقي الجارة ذات المصير الذي اختارته غريمتها بعد أن احتلت مكانتها لدى هيوز، سترحل بلاث تاركة خلفها طفلين صغيرين ومجموعة من الأعمال الشعرية تضعها في موقع ريادة الشعر الستيني، وأوراق تحمل فصول روايتها غير المنتهية، وتبدو أقرب منها إلى المذكرات أو السيرة، تشير في أكثر من مكان إلى توقٍ للانعتاق من سجن الحياة “ثمة صوت في داخلي يدعوني لأكف عن هذا الحمق، أن أنزع زلاجتي وأهبط المنحدر، تحجبني أشجار الصنوبر الخفيضة التي تحدّه، وألوذ بالفرار مثل بعوضة كئيبة، وكانت فكرة أن أقتل نفسي قد رسخت في عقلي بهدوء مثل شجرة أو زهرة” وتحكي حكاية إستر وارتيادها للمصحة العقلية أكثر من مرة بينما احتاجت والدتها أن تلجأ للطبيب النفسي يعينها على ضبط تصرفات وحيدتها والحفاظ على حياتها.

العودة والانكفاء

بلاث المولودة في العام 1932 لوالدين نمساويين هاجرا إلى الولايات المتحدة قادمين من بولندا، تتعرض حياتها لمفصل هام حين يتوفى والدها وهي في الثامنة من عمرها إثر مرض وحالة من الاكتئاب عانى منها، ما جعل الأم تتعالى على حزنها لتلتفت إلى عملٍ يعينها على تدبر تربية ولديها، الأمر الذي وجدته الفتاة غير منصفٍ بحق الأب وهو ما سوف يترسخ في ذاكرة “بلاث/ إستر” وتستعيده في الرواية  فيما بعد تلجأ إلى المقبرة تبحث عن مرقد أبيها وتمارس طقوس الحزن والبكاء نوعاً من إحقاق العدل، ليبقى للجانب الديني تأثيره الهام وقد تلقت تربية دينية صارمة من والدتها والجدة، يتبدى في إسقاطها المتكرر له على مجريات حياة من حولها: “كان الجميع يحب دودو رغم أن حجم عائلتها المتزايد كان حديث الحي، فقد كان لكبيرات الحي كأمي؛ ولدان، فيما كان للأزواج الأكثر شباباً وثراء أربعة أطفال؛ غير أن لا أحد سوى دودو كان ينتظر طفله السابع.. غير أنها كما كان يقول الجميع كانت كاثوليكية”. ودودو كانت الجارة التي باتت موضع مراقبتها إثر عودتها إلى البلدة، وبداية انكفاءها عن العالم من حولها في غرفتها العلوية، خائفة من كل شيء حتى صديقاتها المقربات، وهي الفترة التي اجتاحت مخيلتها أفكاراً متكررة للهروب من العيش مع والدتها تفادياً للعلاج وبحثاً عن فرصة تنقذها من الحياة!.

برغم إصرارها الكبير على الكتابة وهو واحد من أسباب الخوف الذي كان يعتريها دائما: “ملأ جوانحي إحساس بالحنان، سأكون البطلة ولكن بشكل مقنع، سيكون اسم البطلة إيلين، عددت على أطراف أصابعي ثمة ستة حروف في إستر أيضاً، فبدا الأمر فألاً حسناً، تمددت إلى الوراء وقرأت ما كتبته، بدا مفعماً بالحياة تماماً، كنت فخورة بذلك الجزء الخاص بقطرات العرق التي تشبه الحشرات”.

ستسير الأمور طبيعية وعلى نحو جيد، لكنها ستنعطف عندما باتت الأفكار الغريبة تراودها بشكل مستمر وفي كل حين، حتى وهي في حضرة الطبيب الذي يعالجها، وهي تخبره عن قلقها المستديم وعجزها عن النوم والأكل، القراءة والكتابة: “حين أخذت قلمي طفقت يدي تخط حروفاً ملتوية ضخمة كتلك التي يخطها طفل صغير، وكانت الخطوط تنحدر أسفل الصفحة، من اليسار إلى اليمين، على نحو مائل تقريباً، كما لو كانت عقد خيوط تتمدد على الورقة، حتى جاء شخص ما فعبث بها، ثم جعلها تتخذ أشكالاً منحرفة”.

ستبقى أحداث الرواية تتداخل مع الواقع حتى تكتشف إستر وجود صديقتها جوان في الغرفة المجاورة لها في المصحة، تلك التي ستخبرها كيف أن بضعة أخبار في الصحيفة هي ما قادتها إليها، ومن تلك الأخبار سنكتشف ما الذي حدث “طالبة جامعية مفقودة” و”أم قلقة” وصورة منشورة لها برفقة أمها وأخيها الوحيد، لتنتهي الحكاية بالعثور على جوان وقد شنقت نفسها في الحديقة القريبة.

ربما لا تحمل الرواية قيمة أدبية كبيرة لكنها وقد كُتبت بقلمٍ اختارت صاحبته أن تنهي حياتها بإرادتها وهي في الثلاثين من العمر، ستدفعك للبحث خلف الرواية وما بين سطورها، عن إشارات ربما تركتها عمداً عما هي عازمة على القيام به، لتغدو تصويراً لعالم لم تراه إلا حلماً فظيعاً، واختارت أن تواجهه بالسخرية واللامبالاة حتى وهي تخضع لجلسات العلاج الكهربائية، أو من خلال علاقاتها المضطربة مع رجال أحبوها أو أحبتهم بطريقتها، هكذا ستنجرف حياة الفتاة بشكل مأساوي إلى نهايتها، وتتداخل الصور بين ما يحدث لها وحقيقة ما تعيشة سيلفيا بلاث في الواقع. لنراها في النهاية كأنها استعادت ماضيها واختارت الانغماس فيه والغوص في أوجاعه بدل البحث عن وسيلة للشفاء من تبعاته، تلتفت إلى طفليها الصغيرين، تكمل عنايتها بهما على أكمل وجه ثم تتجه إلى المطبخ تفتح صمام الأنبوبة عن آخرها تستنشق الغاز المتسرب كمدمن عتيق، وتترك لروحها أن تنسل من جسدها إلى عالم أكثر هدوءاً وهناء.

بشرى الحكيم