ثقافةصحيفة البعث

ماضي الغرب هو حاضر البلدان النّامية

ماضي الغرب هو حاضر البلدان النّامية

سقوط جدار برلين كان الحدّ الفاصل بين انهيار الشيوعية في العالم كنظام اقتصادي واستمرار المدّ الرأسمالي بعد صراع دام عقوداً من الحرب الباردة والسّاخنة، حيث نجحت الرأسمالية بأن تظهر نفسها بطريقة عقلانية واقعية لتنظيم الاقتصاد الحديث وتلمّست بقيّة دول العالم رأسها (العالم الثالث– الدول الشيوعية السابقة) محاولة تنظيم اقتصاديّاتها المتدهورة عبر التّرحيب بالاستثمار الأجنبي وإسقاط تعرفاتها الجمركيّة وإن كان بدرجاتٍ متفاوتةٍ من الرّغبة ولكن انعكاس هذا الأمر على تلك المجتمعات لم يكن مزهراً كما تقول صحيفة نيويورك تايمز بإحدى افتتاحيّاتها: (السّوق التي يمجّدها الغرب في وميض النّصر بالحرب الباردة قد حلّ محلّها عنف الأسواق). كثيرون يتذكّرون تحذيرات المؤرّخ الاقتصادي /كارل بولاني/ من الأسواق الحرة التي يمكنها أن تدخل في نزاع مع المجتمع وتقود إلى الفاشيّة / لكنَّ قادة أوروبا وأمريكا لم يملّوا من تقديم نصائحهم المجانيّة المستهلكة، لتلك الدول على الطّرف الآخر من شارع العولمة:(ثبتوا عملاتكم، قوموا بالانعطافات الصّعبة، تجاهلوا أعمال الشغب الشّعبية من أجل الغذاء) متناسين أنّ الرأسمالية قد فشلتْ في خلق أنظمة لها في أمريكا اللاتينية أربع مرات على الأقل منذ الاستقلال عن إسبانيا في عشرينات القرن التاسع عشر، ليسارع الغرب قائلاً: بأنّ المشكلة تكمن في افتقار دول العالم النامية لثقافة المقاومة وتوجيه السوق والشكل الفكري نتيجة الإرث الاستعماري، وهبوط معدّلات الذّكاء بهذه البلدان.. الخ.

إذا كان هذا صحيحاً فكيف يمكن تفسير نهوض دول نامية وعملاقة كالهند والصين والبرازيل وإيرا..الخ؟. ولماذا بقيت الرّأسماليّة رهينة وعائها الزجاجي في الغرب الأمريكي، والأوروبي؟

الجواب الأكثر منطقيّة في هذا الصّدد هو عجز الدّول النّامية عن إنتاج “رأسمالها” الحقيقي رغم توفّرها على “ترليونات” الدولارات كرأس مال ميّت.

ولعلّ جديّة الأرقام والوقائع التي طرحها الباحث الاقتصادي البيروفي، الخبير الثاني الأكثر أهميّة في العالم حسب استطلاع مجلّة “الإيكو نوميست” ومؤلّف كتاب “لغز رأس المال” ترجمة “حسام الدين خضّور”  طباعة “دار الفرقد ـ دمشق 2017م /هرناندو دي سوتو/ مستخلصاً نتائجها من أبحاث فريقه في كلٍّ من آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية، توضّح ما يصبو إليه. ففي “مصر” مثلا يبلغ حجم الثروة التي كدّسها الفقراء/55/ ضعف المبلغ الذي جلبته الاستثمارات الأجنبية بما فيها قناة السّويس وسدّ أسوان. وفي “هاييتي” البلد الأكثر فقراً في أمريكا اللاتينية يزيد ما يملكه الفقراء من (أصول) على /150/ ضعف الاستثمار الأجنبي الذي تلقّته منذ الاستقلال عن فرنسا عام /1804م/ وإذا فكّرت أمريكا أن ترفع من سويّة مساعداتها الخارجية بما يتناسب وقرار الأمم المتحدة /7% من الدخل الوطني، فتستغرق أكثر من /150/ عاماً لتنقل إلى فقراء العالم موارد مساوية لتلك التي يملكونها حقيقةً.

لكن مشكلة هذه الموارد أنّها موجودة بأشكال غير تامّة/ منازل مبنيّة على أرض حقوق ملكيّتها ليستْ مسجّلة بشكلٍ كافٍ، أعمال حرة غير منتظمة، صناعة قائمة بمكان لا يستطيع المموّل والمستثمر أن يراها، حقوق الممتلكات غير موثّقة بشكلٍ كافٍ/ لذلك لا يمكن تحويل هذه الأصول إلى رأسمال يمكن الاتجار به خارج دوائر ضيقة،حيث  ينشأ بين الأهالي “عقد اجتماعي” قوامه ثقة الناس ببعضهم البعض، وهذا لا يشكّل ضمانا حقيقيّا لقرض أو سهم أو استثمار ما. وهنا يبرز الفرق بين طبيعة الأصول في هذه البلدان وطبيعتها الموثقة بشكل كاف كملكيّةٍ واضحةٍ في الغرب حيث أنّ دورة الاقتصاد الخفيّة النّاتجة عن ارتباط هذه الأصول ببقيّة فروع الاقتصاد مكتملة عكس بلدان العالم الثالث، مما يجعلها تقود حياة خفيّة موازية لوجودها المادّي/ حيث تستخدم كضمان لقرض مثلا/ ولعلّ أحد المصادر المهمة بتمويل الأعمال الجديدة في أمريكا هي الرّهن على منزل المقاول وذلك لوضوح وثيقة ملكيّته أيّ “أصوله” وهكذا يستطيع الغرب عبر تثبيت ملكيّةِ أصولهِ أن يجدّد دورة رأس المال. أمّا سكّان العالم الثالث فيملكون رأسمالا ميّتاً ضخما بأشياء/ أصول/ لكنّهم لا يستطيعون خلق رأسمال حقيقي من خلالها، لأنّ ملكيّتهم لها تفتقر إلى الوثائق الرّسمية الضّامنة وإلى سندات الملكية الحقيقية وإلى القواعد القانونية السّليمة. هل ثمّة لغزٌ في ذلك، إنّ الغرب قادر على تنمية رأسماله ورؤية أصول ملكيّته، عكس الآخرين الذين يعرفون أنّها موجودة لكن لا يستطيعون رؤيتها والوصول إليها، لأنّها ليست ملموسة ومرئيّة، كفكرة الوقت الذي لا يُرى ولكنّنا نستطيع معرفته من خلال الروزنامة أو السّاعة. إنّ تطوّر الإنسان يشهد مثل هذا النظام التّمثيلي لقوننةِ الإدراك والوعي الإنساني منذ اختراع الأبجديّات وحتّى الآن. بنفس الطريقة عمل منظّرو الاقتصاد العظماء، حيث كشفوا عن رأس المال الخفيّ الذي لا يرى فيه الآخرون سوى “خردة”،وبذلك استطاع الغرب فكّ تشفيره، منتجاً بذلك رأسماله الضّخم والحيّ بنفس الوقت. تلك كانت البداية الضّرورية لتجديد دورة رأس المال التي تمّت عبر عمليّة معقّدة غامضة مدفوعة من اللاّوعي الاقتصادي للغرب. وكما يقول “هرناردو دي سوتو” لقد عرف مربّو الحيوانات، الوراثة قبل تفسير “ماندل” لها ودون أن  يهتمّوا بطريقة وصولهم إلى ذلك.

إنّ الفشل الاقتصادي في الدول الفقيرة سواء كانت ضمن النظام الشّيوعي السّابق أو بلدان العالم الثالث لا يخصّ ثقافة دون أخرى، فقد تشارك كلّ من روسيا وبلدان أمريكا اللاّتينية والعالم الثّالث بنفس المشكلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وعدم المساواة وانتشار المافيات وعدم الاستقرار السياسي وهروب رأس المال وعدم احترام القانون الخ.. وكذلك كان الأمر في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1738م حين شكا رئيسها /جورج واشنطن/من “عصابات السّرقة المسلّحة.. التي تقشد زبدة البلد وتسرقها على حساب الكثيرين”.

هكذا كان ماضي الغرب هو حاضر البلدان النامية، فأمريكا والغرب كانوا قبل أكثر من مئة عام بلداناً من العالم الثالث. قبل أن ينجحوا بتأسيس قانون الملكيّة الرّسمي العام، ويحوّلوا الرأسمالية الصّاعدة إلى ثقافة شعبيّة، حيث غدتْ العصابات والمافيات التي تحدّث عنها الرئيس الأمريكي مستهجناً يوما ما،رموزاً محبوبة ومبجّلة في الذّاكرة الوطنيّة الأمريكيّة.

أوس أحمد أسعد