“خالي العلام”!؟
د. نهلة عيسى
شهران فحسب, مرا على الوطن وهو يتهيأ لارتداء حلة العيد, بالرغم من كل محاولات أمريكا وإسرائيل لتعريته علانية مرة أخرى, لتؤكدا لنا ما نحن نعرفه, أن الخنجر المغمود في قلبنا صنيعتهما, وأن اليد التي تغمده امتداد يدهما, وأن عذاب سبع سنوات من القتال المر على كل الجبهات بحثاً عن السلام, سيطول سنوات وسنوات لأن هناك من يضغط عامداً على الزناد, لذلك يدهشني حقاً, أن الضحكات ما تزال تتعالى في هذا الوطن الحزين, وأن البراعم الخضر لم تتوقف عن النمو في حقول الرماد!؟
شهران فحسب, حاول فيهما السوريون, تقلد الأمل, والبحث عن بصيص نور يمكن أن ينهي نومنا على القنابل الموقوتة, وأن يرسم من جديد أربع جهات فقط لحدود الوطن, ولكن إسرائيل راعها انعكاس الشمس في عيوننا, فعاجلت البصيص بصواريخ الفجور, لتؤكد لنا صوابية قرارنا بأنه “أنا وأنت والزمان طويل”, بل ربما الأصح, بعد أن تعرت شجرة أنساب العرب, بعد الادعاء الطويل أنها “خالية العلام”: “أنا وأنت عايشين لبعضينا”!.
شهران فحسب على تحرير مدينة دمشق وريفها, لم يتغير فيهما شيء, لم يتوقف الرصاص لحظة في أماكن أخرى من الوطن, ولم يكف صراخ الرشاشات عن أن يكون موسيقانا اليومية, ولم نبدأ بعد في مسح البارود عن خبز طعامنا, ولم نتوان عن الاتصال كل ساعة بالأهل والأصحاب لنخبرهم بأننا مازلنا أحياء فطمئنونا عنكم, ولم يتغير موعد نومنا أو صحونا, شهران.. ماتزال نظرة الميت الباردة في عيوننا, نسمع الانفجارات أكثر مما نرى الضوء, ونراقب الشاشات المتلفزة, نستنهض فيها مطراً يغسل وسخ الحرب وشلالات الدم, ويجد للصداع علاجاً آخر غير قطع الرأس!؟
شهران فحسب, ما نزال على إيماننا “خالي العلام” أن سيف العدالة لم يشرع بعد, وأن الطريق إلى السلام ما يزال سحابة أوهام, وأن سجادة واقعنا وخارطة المدن والقرى والجبال والوديان والأنهار, و”داعش والنصرة وأحرار الشام أو حوران أو الشيطان”حياكة دولية, وأن من يسمونهم “معارضة” قد عارضوا الوطن, وهم لا يملكون من أمر ذاتهم شيئاً لكي يملكوا من أمر ذات الإرهابيين شيئاً أو من أمر رعاة الإرهاب شيئاً, لذلك جلوسهم على طاولة للحوار, بعد أن غيروا اللغة واللسان, وربطوا ساعاتهم على توقيت دمشق عوضاً عن الرياض, لن يقدم ولن يؤخر في أمر الوطن شيئاً, سوى أن عناوين فنادقهم الفخمة سوف تتغير, وربما يتغير مستوى الخدمة, أو ربما يتغير عليهم الجو!!
شهران فحسب, وما زالت رفقتنا عناوين الأخبار, وفي القلب مايشبه اليقين, أن أعصاب من اتخذوا قرار الحرب علينا, ماتزال ممددة على طاولات المساج وفي قاعات اليوغا, وأن بياتنا على الألغام يخصنا وحدنا, وأن حماية حدودنا التي تحولت إلى صليب نعلق عليه كشرائح اللحم تخصنا وحدنا, وأن التصريحات الدولية عن أن “لا حل للحرب في سورية, سوى الحل السياسي” لن يستطيع أن يستر جروح الوطن, ولن يجفف دموعنا المنهمرة كطوفان نوح, ولن يمنع (لأنه لا يريد أن يمنع) السيد الموت من دخول بيوتنا ومغازلة الأحياء منا, ورفع راياته على جدران منازلنا كإعلانات مبوبة لتجار الأوطان والسلاح, تقول: هنا يرقد السوريون الذين ماتوا في ريعان شبابهم وهم “يتفجرون” صحة وحيوية!
والحقيقة إن مقارنة صورة للوطن قبل الحرب, بصوره بعدها, سوف تؤكد أن مراودة الموت لنا عن أنفسنا, لم تستطع أن تراود يقيننا بالنصر, وأن بقاءنا في الوطن رغم جهلنا لمصيره, ليس عجزاً, بل خجلاً من أن نترك الوطن وحيداً, مع قناعتنا أنه ما زال هناك الكثير من الناس فيه لم تترك شغلها “لتشتغل فيه”, بل اشتغلت لتحميه, ولتؤكد أن الوطن راجع, لكن ليس مسموحاً لمن باعوه, أن يرجعوا, لأننا مصرون أن يبقى الوطن “خالي العلام”.