ثقافةصحيفة البعث

بعض تجليات السياسة في شعر نزار قباني

 

 

“هذا زمن التطبيع.. يا سيدتي/ يهجم علينا/ بكل سماسرته/ وشيكاته/ ومافياته”
نزار قباني الذي رفض كل أشكال التطبيع مع إسرائيل، كان محور كتاب الباحث إياد مرشد(تجليات السياسة في شعر نزار قباني) الصادر عن وزارة الثقافة –الهيئة العامة السورية للكتاب-إلا أن الكاتب ظلم نفسه بتحديد العنوان لأن صفحات الكتاب التي تجاوزت أربعمئة وستين صفحة من القطع الكبير كانت أكثر شمولاً واتساعاً، من الوقوف عند نكسة حزيران والقضية الفلسطينية، إذ أبحرت بعمق التجربة الإنسانية وبالثورة الشعرية لشاعر العرب وبمكنونات المرأة وجمالها.

الهجرة اليهودية
نزار قباني جعل القضية الفلسطينية في المرتبة الأولى بعد نكسة حزيران التي فجّرت شعره السياسي، فصوّر في شعره الهجرة اليهودية إلى فلسطين واقتلاع أبناء الأرض الحقيقيين من بيوتهم وبياراتهم وحقولهم، وكان نزار من أوائل الشعراء الذين تنبهوا لخطورة هذه الهجرة –كما ذكر الكاتب- ودعا إلى دعم صمود الشعب الفلسطيني في مواجهة المحتلين، واستنكر تجاهل الحكام العرب لمصير الفلسطينيين، فمن أشهر قصائده (الحبّ والبترول) والتي خاطب فيها أمير النفط المستغرق في لذاته والغافل عن القدس.
“تمرّغ في ضلالاتك/لك البترول، فاعصره/على قدمي خليلاتك/كهوف الليل في باريس قد قتلت مروءاتك”
ولم يجسد نزار الهزيمة على أنها انكسار عسكري فقط، بل وجد أن سببها يعود إلى غياب الفكر القادر على صنع حضارة تستطيع الوقوف في وجه إسرائيل والأمة التي تعيش في حالة غياب الوعي لايمكن أن تصنع نصراً، ودعا إلى التغيير الذاتي والتخلي عن بقايا الجاهلية والتخلف، وراهن على الأطفال فبرأيه من يراهن على الأطفال يراهن على المستقبل:
“يا أيّها الأطفال/يامطر الربيع يا سنابل الآمال/أنتم بذور الخصب في حياتنا العقيمة /وأنتم الجيل الذي سيهزم الهزيمة”
وأحسّ نزار أن حلمه سيتحقق من خلال الطفل الفلسطيني الذي يحمل بيده الغضة حجراً في وجه السلاح الإسرائيلي كما في قصيدة (دكتوراه شرف في كيمياء الحجر):
“يرمي حجراً/أو حجرين/يقطع أفعى إسرائيل إلى نصفين/إحراق المسجد الأقصى”
كما تطرق الكاتب مرشد إلى ما قاله نزار في اغتيال قادة المقاومة الفلسطينية مثل كمال ناصر وكمال عدوان وأبي يوسف النجار وزوجته في بيروت وغيرهم في قصيدة (عرس الخيول الفلسطينية):
“بشارع (فردان) كانت تموت الخيول الجميلة/بصمت وتختار ميتتها النادرة/يقولون: إن الخيول بفطرتها/تعاني من العشق أيضاً/وتعرف معنى الفراق، ومعنى الشجن/وتقرأ أحسن منّا جميعاً/كتاب الوطن”
ليصل الكاتب إلى المدينة المقدسة مدينة الأديان في قصيدته القدس:
“يا قدس.. يا مدينة الأحزان/يا دمعة كبيرة تجول في الأجفان/من يوقف العدوان/عليك يا لؤلؤة الأديان”

اللغة الحقيقية
وأشاد نزار قباني بما قدمه شعراء المقاومة في فلسطين ورأى أنهم أعطوا الحرف شكل السكين وأنهم علموا شعراء العرب المهزومين اللغة الحقيقية:
“شعراء الأرض المحتلة/يامن أوراق دفاتركم/بالدمع مغمسة، والطين/يامن نبرات حناجركم/تشبه حشرجة المشنوقين”
وقرأ الكاتب مرشد عوالم المرأة عند نزار لاسيما أنها الموضوع الأبرز في شعره حتى لُقب بشاعر المرأة، فتوقف عند وصفه الدقيق لتفاصيلها الأنثوية، ووصفها من الداخل كإنسان لها معاناتها الخاصة لاسيما في مجتمعنا الشرقي الذي يلقي بكل عقده وأمراضه المزمنة على المرأة، فيعزلها عن الحياة، وقسم مرشد الرؤية الشمولية للأنثى في شعر نزار إلى مراحل، عنوّن الأولى بالجسد الأنثوي إذ وصف مفاتن المرأة وصفاً حسياً جريئاً حاراً لاذعاً متجاهلاً كل المفاهيم الاجتماعية السائدة، وبرأي الكاتب هذا هو السبب الذي عرضه للنقد والتهجم عليه، فنزار كما توصل إليه الكاتب انتفض على الصورة النمطية للمرأة في الشعر العربي وجعلها امرأة تنبض بالحياة وتخضع لأوضاع الواقع، فقدمها على شكل لوحات شعرية تفيض بالحيوية بالإحساس المرهف، فعرض جمالها متجاوزاً كل الخطوط الحمراء كما في ديوانه قالت لي السمراء عام 1944 في قصيدة (سيمفونية على الرصيف):
“سيري..ففي ساقيك نهرا أغاني/أطرى من الحجاز..و الأصبهاني”

التحوّل النزاري
وعنون الكاتب المرحلة الثانية بالدخول في عوالم المرأة منذ أواسط الخمسينيات حيث شغلت الموضوعات الاجتماعية اهتمامه، وأهمها رفضه واقع المرأة فكان ديوانه (قصائد من نزار قباني) البداية الحقيقية لدفاعه عن المرأة عام 1956، وشكّل التحول النزاري نحو المرأة، فاستنكر خيانة الرجل لمحبوبته كما في قصيدة(رسالة من سيدة حاقدة)
“وصرخت محتدماً: قفي/والريح تمضغ معطفي/والذل يكسو موقفي”
ومضى الكاتب من خلال ديوانه السادس حبيبتي ليوضح عمق التجربة الإنسانية عند نزار ودمجه بين المرأة والقضايا القومية كما في قصيدة(رسائل من جندي من جبهة السويس) إلى قصيدة (قديسة) إلى قصيدة (إلى مراهقة) إلى قصائد أظهرت جنوح المرأة نحو أحاسيسها ورفضها أن تكون الخاضعة لشهوات الرجل، كما في قصيدة(قطتي الغضبى) وتأتي قصيدته (صوت من الحريم) لتكون استمراراً لثورة المرأة على الرجل:
تريدني/محظية جديدة/تدفنها وراء جدران الحريم المزمن
وتوقف الكاتب عند المرحلة الأهم وهي المرأة القضية فربط بين تحرير المرأة وتحرير الأرض، وفي ديوانه كل عام وأنت حبيبتي عام 1978، حاول المزاوجة ما بين قضية المرأة والهمّ السياسي، وفي ديوان (هكذا أكتب تاريخ النساء) عام 1981 أكد على أهمية حضور المرأة في حياتنا، ليخلص الكاتب إلى توحد المرأة بالوطن حينما أصبحت رمزاً للوطن.
وينتهي الكتاب بقضايا عربية تناولها نزار إذ خصّ وفاة الزعيم جمال عبد الناصر، والقضية اللبنانية وحرب الخليج الثانية وقضية الحرب والسلام.
تجليات السياسة في شعر نزار قباني- وزارة الثقافة- الهيئة العامة السورية للكتاب- 2017 -463 ص من القطع الكبير.
ملده شويكاني