بين نظرتين..!
حسن حميد
من يتابع المشهد الثقافي يجد أن ما تحكمه وتؤثر فيه هي نظرات منحازة إلى ضفتين اثنتين، الأولى مادحة وآخذة حتى بالأغلاط، والثانية قادحة رافضة لافظة للجميل. وكلاهما على حيف لأن فيهما إفراطاً وتفريطاً، في النظرة الأولى إفراط في المديح من دون الأخذ بالنظرة النقدية التي تقلّب الأمور على وجوهها لتستوي الصورة واضحة من دون اهتزاز أو تجميل، وفي النظرة الثانية تفريط بما قد يكون ثميناً، لأن العين الجاحدة أو الغاضبة لا ترى إلا السخط مثل العين الراضية الكليلة عن رؤية أي عيب!
وهاتان النظرتان، بمدحهما وقدحهما، ضارتان بالمشهد الثقافي لأنهما، ومع مرور الأيام، تبنيان الحواجز والمتاريس، ما بين حال وحال، والمنطق يقول: إن الحال الأولى متولّدة من الحال الثانية، أو أن الثانية رديفة للأولى ومكمّلة لها ولاسيما حين نتحدث عن التراسل ما بين أجناس الأدب وفنونه، أو عن اشتقاقات الجنس الأدبي الواحد وهو في غمرة التطور والغنى.
أمدّ هذا السطر الطويل وأنا أقرأ هذه الكتابات المسطورة هنا وهناك، في هذه المطبوعة أو ذلك الموقع الإلكتروني التي تحاول ترذيل قصيدة النثر، وترحيلها ليس من عالم الشعر فحسب، وإنما من عالم الأدب قاطبة، واتهامها بما لا يليق بها، وإلصاق ما ليس بحميد بكتّابها! والأمر نفسه ينسحب على القصة القصيرة جداً التي باتت محكومة منذ عقود أيضاً بنظرتين متضادتين في كل شيء، إحداهما راضية بها إلى حدّ التقديس، والثانية ساخطة عليها إلى حدّ الشماتة! والعاقل هو من يرى الجميل في القش والشوك لا ليصير القش قمحاً، ولا ليصير الشوك زهوراً، وإنما من أجل أن تكون النظرة موضوعية لا اعلال فيها، ولا عقابيل لها. قصائد نثرية كثيرة، وتجارب مهمة في كتابة قصيدة النثر موجودة بين أيدينا، وما فيها من قول، وجمال، ودهشة يطرب الذات ويغنيها، ومن العسف أن تلاقي هذه القصائد أو تلك التجارب كلاماً أو نظرات تسيء إليها لأن من حبّرتها وأوجدتها هي مواهب ثقيلة، والأجدى والأنفع للأدب أن تلاقي قبولاً ورضا لأنها تبارك التطور الجديد المشتق من التطور القديم، فليس كل جديد عديم الفائدة وخالياً من الحذق، مثلما ليس كل قديم عديم الفائدة أو خالياً من الحذق. إن النظرة المسبقة، المعدة سلفاً من دون الخوض في فعالية القراءة، ومعرفة الجوانب الفنية للنصوص، هي نظرة متطرفة إن لم تكن عمياء، هي نظرة ضارة بالأدب، بل وفي سائر الفنون ومعطيات الحياة، فالكراهية والحب لا يصيران كراهيةً وحباً من دون معطيات! ولهذا فإن قصائد نثرية كثيرة عرفناها سابقاً ونعرفها في هذه الأيام محتشدة بأسرار الشعر وجمالياته، وهي جديرة بالتأييد والتبني لتكون جزءاً أصيلاً من تطور القصيدة، وإن قصصاً قصيرة جداً عرفناها سابقاً ونعرفها في هذه الأيام محتشدة بما تتمناه نصوص القصة القصيرة من حضور وجمال وغنى وهي جديرة بالتقريظ لأنها جزءٌ أصيل من تطور فن القصة القصيرة، وما عدا ذلك، من مديح وقدح، هو زبد ليس إلا!
إن النظرة الموضوعية هي النظرة الراعية لتطور أجناس الأدب وفنونه، لأنها نظرة مبصرة للجمال داخل النصوص حتى ولو كان هذا الجمال وحشياً بلا شبيه أو مثال، وإن تدريب الذات على قبول ما تنشق عنه الحياة الثقافية من إبداع هو المؤيد لمساهرة الجديد الباني بوصفه تطوراً لابدّ منه! فلا للحماسة الجوفاء النابذة والجاذبة في آن، لأنها غير موضوعية ولا تعرف الامتلاء، ونعم للحماسة الهادئة التي ترى جمالاً في الاشتقاقات الجديدة، فليس كل ما قاله الأقدمون مقدساً، وليس كل ما يقوله المحدثون مدنساً، ولا عين رائية للمقدس والمدنس مثل عين العقل!
Hasanhamid55@yahoo.com