ليست “يالطا” الجديدة
لم يكن مستشار الأمن القومي الأميركي “جون بولتون” يجانب الحقيقة بتخفيضه، مسبقاً، سقف التوقّعات من قمّة “هلسنكي” حين قال: “لا آمالاً كباراً تُعقد على القمّة”، فالقمّة، وإن كانت تستعيد شكلياً صورة قمم مشابهة سابقة، ليست “قمّة عالم اليوم” بتشابكاته وتعقيداته وتعدّد قواه وظروفه المتباينة، وبالتأكيد ليست “يالطا” جديدة، يقتسم فيها الطرفان عالماً أنهكته حرب بقسوة وخطورة واتساع الحرب العالمية الثانية، ورسمت جيوشهما المتقابلة حدوده السياسية والجغرافية، والأهم من ذلك أن الأيديولوجيات المتعارضة لكليهما رسمت حدوده الثقافية والفكرية العميقة، فروسيا اليوم لا تلتحف بالماركسية كنظام سياسي واقتصادي واجتماعي مناقض لنظام واشنطن الرأسمالي، وواشنطن بدورها لا تريد، في عهد ترامب، من الستار الحديدي سوى تطويق حدودها لا حدود “العدو” الروسي، كما أنها لن تتبعها بخطة مارشال جديدة لدعم الحلفاء، الذين يخسر ترامب كل يوم قسماً جديداً منهم عن سابق ترصّد وإصرار..!!، بل إنها استبقتها بغارات ابتزازية و”سلبطة” علنية على الحلفاء والأعداء معاً لدعم خطة أمريكا أولاً.
وأكثر من ذلك، لا يمكن الحديث، في عالم اليوم، عن قطبين وحيدين لا ثالث لهما بوجود فاعل دولي هام ومستقل يدعى الصين، وفي ظل انشقاق اقتصادي وسياسي واضح بين واشنطن والاتحاد الأوروبي، ما يوحي أننا قد نكون أقرب إلى عالم متعدّد الأقطاب، مع تفاوت في قدرة كل قطب فيه، عالم سماه أحد الباحثين نظام “التعددية القطبية الفضفاض” تكون تحالفاته ومصالحه بصورة “تحافظ فيها الدول على مرونة قدرتها على تغيير شركائها أو تشكيل تحالفات جديدة رداً على التغيرات الحاصلة في تطلعات نظرائها وقدراتهم”.
بيد أن ذلك كله، بما فيه توقّعات بولتون – التي يجب أن تقرأ أيضاً في سياقها الأمريكي الداخلي والخوف من الخصوم المحليين – لا يخفف من أهمية القمّة وتاريخيّتها أو من قيمة نتائجها وتداعياتها الآنية والمستقبلية، ومن اليوم سيتضح المسار النهائي لقضايا عدة، تأتي صورة الشرق الأوسط السياسية المستقبلية على رأسها، فبعد أن فشل الوكلاء، وفي ظل استحالة الحرب الكبرى بين الأصلاء، لا يبقى على واشنطن سوى الإقرار بالفشل في سورية، والاكتفاء بمحاولة تحقيق ما يكفي لحفظ ماء الوجه مع إصرار “ترامبي” على تطويق هذا الفشل لمنع امتداد ارتداداته إلى ساحات أخرى مازالت معاركها مفتوحة على المجهول، واستطراداً، يمكن القول: إن العدوان “الإسرائيلي” الجديد قرب مطار النيرب في حلب وتذكير أردوغان لترامب قبل القمّة مباشرة بالتزامات الأخير بـ”خريطة طريق منبج”، هما رسالتان للقمة لأخذ مخاوف وهواجس الطرفين بعين الاعتبار.
إذاً هي ليست “يالطا” جديدة، لكنها في الشكل والمضمون والتوقيت تعبير واضح عن حقيقة ساطعة تقول: إن العالم في حالة تحوّل كبرى، حتى لو كابر بعض “أغنام” مرحلة الأحادية الأمريكية في الاعتراف بذلك، وإن القبضة الأمريكية في حالة ارتخاء مستمر ومتواصل، وليس تفصيلاً في هذا السياق الاتفاق الاقتصادي الصيني الكويتي الجديد، فبعيداً عن الشق الاقتصادي الكبير للاتفاق، وهو هام جداً، إلا أن معناه السياسي والاستراتيجي أكبر بما لا يقاس، فهو، عملياً، انشقاق ضمني لمحمية أمريكية في منطقة كانت بحوزة واشنطن منذ “يالطا” الشهيرة.
قصارى القول: لا حلول كبرى لكل القضايا المختلف عليها في قمة بوتين – ترامب سواء بسبب عدم الرغبة أو محدودية القدرة، بل حلحلة في قضايا “مؤلمة” محددة، وربط نزاع في أخرى، لكن للقمة نتائجها المباشرة، وربما كان أبرزها تهميش دور القارة العجوز، والاعتراف بحصرية دور موسكو في الشرق الأوسط وجوارها المباشر، وربما أبعد من ذلك..!!، هذا إذا تغاضينا عن “نزق” ترامب الشهير بالانقلاب على الاتفاقات، ومشاكله الداخلية التي قد تجعل من كل ما يتفق عليه مع روسيا معرّضاً لخطر الإسقاط في دهاليز الكونغرس، وتلك ليست نبوءة مستحيلة الحدوث، خاصة وأن كرسي الرجل ذاته “على قلق كأن الريح تحته”… ومع ذلك ستسجل “هلسنكي” في التاريخ كلحظة كاشفة، وليست منشئة، عن مسار عالمي جديد لا رجعة فيه.
أحمد حسن