مأزق الوظيفة العامة
كان لافتاً ومريباً المشهد على مدرج جامعي في دمشق احتضن المتقدمين إلى مسابقة أعلنت عنها إحدى الوزارات، 500 متسابق منهم 497 أنثى وثلاثة ذكور، ودون كثير مقدمات سيقفز ذهن من يتابع إلى مشهدٍ آخر مرتبط، رصدته أحدث الإحصاءات الرسميّة التي تتحدّث عن 70 إلى 80 بالمئة عمالة أنثوية في قوام القوى البشريّة العاملة في قطاعنا العام.
ندرك أن ثمة ظرفاً موضوعياً حتّم مثل هذا المتغيّر الحادّ، إلّا أن في الأمر حيثيّة أخرى علينا الانتباه إليها جيداً، وهي أن الشباب الذكور باتوا ينأون بأنفسهم عن مضمار الوظيفة العامة، لانعدام الجدوى الماديّة المتعلّقة بالاستحقاقات الحياتية التقليدية المطلوبة من أي شاب في مجتمعنا.
ويبدو فعلاً أن الوظيفة العامة لدينا، دخلت في عتبة خلل جديدة حالياً، ويجب أن تكون المعطيات الجديدة كافية لاستشعار ملامح خطر حقيقي يعتري مؤسساتنا في البنية هذه المرّة، وليس في مجرّد طقوس الإدارة والأداء وثقافة العمل “الرخوة” والفساد، الذي استغرق منّا الكثير من الكلام، والقليل من الجهد الاستدراكي الفعلي.
إلّا أننا نرى في هذا المشهد، الذي يصفه بعض المتشائمين بـ “الكئيب”، فرصة لإحداث تغيير نوعي حاد في توزيع أدوار سوق العمل، وفي بوصلة اتجاهات الموارد البشرية، وثقافة العمل، بل ثقافة الحياة، التي تبدو مرتكسة تماماً لجهة التعلّق المرضي بفرصة العمل الحكوميّة.. فنحن من يستهزئ ويتندّر بلقب “موظف”، ونحن من ندفع بأنفسنا وأولادنا لحيازته.. بالتوسّط والرشاوى والمحسوبيات، وهذه مفارقة ليس لها تفسير موضوعي، إلّا أنها بقايا صور من زمن الأبوية المفرطة ونهج التوظيف الاجتماعي.
نحن أمام فرصة دسمة فعلاً، لتوجيه عناية “طلّاب العمل” بعيداً عن مضمار البطالة المقنّعة في أروقة المؤسسات العامة، نحو المطارح ذات العائد والجدوى الحقيقية، للفرد أولاً ثم للبلد والاقتصاد الكلّي ثانياً، وإن كنّا في أزمة كوادر من نوع ما حالياً، فالوجه الآخر لما نحن فيه إيجابي يتمثّل بسقوط استحقاق إنتاج فرص العمل عن كاهل الحكومة، التي طالما اضطلعت بهذا الدور المرهق، وكان سعيها لمكافحة البطالة محصوراً في نطاق “توليد” فرص العمل الخلبيّة لنفض تهمة التقصير، وكان أحدث الأمثلة “البائسة” برنامج تشغيل الشباب الخريجين الذي لم يكن في وقته سوى إجراء لرفع العتب، وكم كان مكلفاً بما رتبه من أعباء في حينه.
لكن هذا التوجّه يرتّب استحقاقاً من نوع آخر على الحكومة، وهو تخطيط اتجاهات الفرص الفردية و”مولدات الدخل” الخاصّة، وتسهيل الدروب المؤدّية إليها، خصوصاً بالنسبة لمشروعات الخريجين، كل حسب اختصاصه، وهنا ندخل في حيز المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر، التي اتفقنا على أنها الحل الناجع لمعظم مشكلاتنا الاقتصادية، وما يترتب عنها من تبعات أخرى في البعد الاجتماعي.
ليس بالضرورة مثلاً أن يكون كل خريجي كليّات الهندسة بمختلف اختصاصاتهم موظفين لدى الدوائر الحكومية، ومثلهم خريجو المعاهد المتوسطة، فثمة أفق واسع لإطلاق مهارات هؤلاء الشباب ليبدعوا ويستثمروا طاقاتهم الهائلة، بدلاً من تأطيرهم بعقليّة الموظف، وبراتب ليس إلا مصروف جيب شخصي.
أما “العمالة المؤنثة” فلها ترتيب آخر، لا بد من بحثه على مستوى المهام الجديدة، واحتمالات الاصطدام بخصوصية المرأة في سوق العمل، التي حتّمت حالة من التردد في المقاربة الجادّة للدور الفعلي للمرأة العاملة على مرّ عقود مضت، فاليوم بات للواقع قراءة مختلفة.
ناظم عيد