أدباء الغرافيتي
حافظت دمشق على مكانتها المرموقة في التاريخ كغيرها من الأماكن الموجودة في سورية، حتى وهي تخوض معركتها ضد الإرهاب المتوحش، فلحظةَ نجول بحاراتها وشوارعها، القديمة منهاوالحديثة، نطلق العنان لأرواحنا لتستمتع بجمالها وعفويتها، لكن في كثير من الأحيان وأثناء مرورنا بها يعترض صفاء الروح كتابات وعبارات شوهت جدرانها الجميلة، تراصّ جديدها فوق قديمها، منها البذيء ومنها ما يعبر عن حب شاب لفتاة أو بالعكس، وإعلانات عشوائية، لتكون تلك الأحياء ضحية لتفاهات وجهل وتخلف الآخرين، وامتد هذا التشويه لينال الأماكن العامة والمقاعد والمدارس، التي لمّت فئة عبرت عن سوء أخلاقها بحرية دون رقيب.
أساليب عديدة استخدمت للتعبير على الجدران بشكل فني، ففي بلدة ألتو في جورجيا بهولندا حوّل مالك متجر قطع للسيارات مربعه المليء بالحافلات المتقاعدة إلى معرض فني غير تقليدي، وأوحى الفنانين المحليين على أنها لوحات فارغة جاهزة لنقش لوحاتهم عليها بجمالية ساحرة، ليبدأ فريق محلي يطلق عليه “crispy printz” برسم اللوحات الجدارية على تلك الحافلات. ومنذ ذلك الحين يدعو الفريق عدداً من أعظم الفنانين الجورجيين للانضمام إليهم وإعادة رسم الباصات بفنٍ جديد، والحفاظ على معرض انتقائي ومتغير باستمرار.
وفي نيويورك غصّت المرافق العامة بكتاباتٍ متنوعة ضمن لوحات عالية المستوى وألوان فاتنة تصدح بشوارعها، وأصبحت فناً معترفاً به يسمى “فن الغرافيتي”، ويعود ذلك للمستوى العالي الذي تتميز به هذه الكتابات حتى أنهم كانوا قد أطلقوا على أصحابها اسم “أدباء الحمّامات”، ولكن شتان بين من يرسم تلك الرسومات الجميلة وبين من يجعل الجدران دفتراً لمذكراته ويكتب كل ما ينم عن التخلف والقبح.
وكان نصب “I Love Damascus”،الذي وضع في ساحة الأمويين للتعبير عن الحب بطريقة جميلة وراقية، أحد الضحايا، فسرعان ما هرول بعض المتسكعين الفوضويين، بالكتابة والتوقيع والخربشة على هذا النصب، ليقوم الناس بالاعتراض على ما آل إليه بعد التشويه الحاصل فقرروا إعادة تجديده ليعودوا وللأسف من جديد بكتابة خربشاتهم.
مر على سورية أيام مريرة، وأصبحنا نمر بحاراتٍ وشوارع حَوَت جدرانها المتصدعة، التي أرهقتها الحرب، عبارات ترهيبية ورسومات قتل وتهديد مخيفة، والغريب في الأمر أننا عندما كنا نراها استُبدلت بتواقيعٍ من جنودنا الشجعان، وبالعلم السوري، وبعبارات خطّها أولئك الأبطال مثل “بحبك سورية”، و”من هنا مر الجيش العربي السوري”، بدلاً من “بالذبح جيناكم”، ينتابنا فرح وطمأنينة بأننا مررنا بحاراتنا التي اعتدنا رؤيتها، ونشعر بهويتنا السورية. ومن المضحك المبكي أن أولئك المخربون، ومع كل ذلك، استمروا بتدوين خربشاتهم بدلاً من أن يبتكروا طريقة لإعادة تصنيف ذكرياتهم بطريقة حضارية وفنية.
ومؤخراً انتشرت في سورية بعض الفرق مُشكلةً من مجموعة فنانين سوريين، منها فريق “إيقاع الحياة”، لتحدث ضجة فنية وتنقذ تلك الجدران من عبث بعض المارة المخربين، وقامت هذه الفرق بتزيين جدران بعض المدارس والمناطق في أنحاء دمشق، واستمرت هذه الأعمال بكل ما احتوته من رسوم جميلة وإعادة تدوير لقطع قديمة باستبدال تلك المناظر المشوهة.
وإذا عدنا إلى الإنسان البدائي، منذ العصر الحجري، نرى أنه استخدم الرسم على الجدران، ليُؤرِّخ قصصه وتاريخه بلوحاتٍ بسيطة وجميلة، لا ليكتب مشاعره وألفاظاً بذيئة، فعلينا أن نكون على الأقل كالبدائيين وألا نتمسّك بعادات سيئة أكثر من تمسّكنا بعادات حضارية، لِمَ لا نؤمن بأن الفن هو نقطة البداية لكل ما هو جميل، ونطهّر أرواحنا من كل قبح يسكن أفئدتنا؟ فبإمكاننا أن نعبر عن حريتنا بطرق حضارية عديدة.. فلنتحضر قليلاً.
ريم حسن