“واجب”.. عِنْدما يقِفُ المُخرِج على الحِيَادْ
فيلم واليس من حكاية تستوجب التفتيش عن مفاصلها ومقوماتها في الفيلم، لا بداية لها واضحة ولا نهاية، وإذ مسرح الفيلم أصغر من أن يحيط بها، فلا بد أن يضيق على القصة، لكنه يتسع باتساع وامتداد الطريق الذي سوف تسلكه السيارة بما يكفي لسرد طبيعة العلاقة بين أبو شادي وابنه بكل تعقيداتها، تلك التعقيدات التي هي صورة حقيقية عن واقع علاقة جيل كبير من الآباء والأبناء الفلسطينيين، عمره من عمر الخيبة التي مُنيَ بها الجميع، وعلى الأخص هؤلاء الذين يطلق عليهم فلسطينيو الـ 48.
– بعدنا عم نوزع المكاتيب، باقيلنا 340 مكتوبا، مجبورين على الطريقة النصراوية، يا ريتك معنا. بلهجة أهل البلد يخاطب “شادي” صديقته على الهاتف الجوال.
– بعدك ساكن مع سلمى؟ يسأل الأب باستهزاء واستنكار.
– اسمها ندى يابا. يجيب الابن بنزق واضح.
فيلم “واجب” الفلسطيني الذي تجري أحداثه على امتداد فترة زمنية لا تتجاوز الـ 24 ساعة، يدور حول أستاذ المدرسة “محمد بكري” المتخم بالخيبات والذي تركته زوجته منذ زمن لترتبط بآخر وتهاجر إلى أمريكا، بينما بقي هو للاعتناء بابنته الوحيدة بعد رحيل “شادي /صالح بكري” إلى إيطاليا لاستكمال دراسته، الشاب الذي سيعود إلى البلاد لحضور زفاف شقيقته “ماريا/ ماريا زريق” ومشاركة الأب في الترتيبات والتحضيرات التي تسبق حفل الزواج.
وهكذا سوف تتم الإضاءة على العلاقة ما بين الأب وابنه، والتركيز على التعقيدات التي لا ننتظر من مخرجة العمل إيجاد حل لها. آن ماري جاسر ابنة بيت لحم أرادت استعادة الذاكرة الفلسطينية القديمة من خلال تقليد ما زال يمارس من قبل أهل مدينة الناصرة ربما كنوع من الدلالة على التمسك بالهوية، وهو واجب تسليم بطاقات الدعوة من قبل الأهل إلى الضيوف المزمع دعوتهم لحضور الحفل المنتظر.
وعندما لا تكون الحكاية ممكنة، وعندما لا يتسع المكان للقصة مهما كانت قصيرة، لا بد للحوار من أن يتسيّد المشهد كاملاً، بغية إظهار التباين الواضح ما بين جيلين امتد الزمن بينهما، كاتساع الهوة بين العقول، أستاذ أصابته الخيبة من كل شيء، وابن غاضب أيضاً من كل شيء.
وفي الرحلة التي استغرقت يوماً كاملاً من عمر الأب وابنه، وقد التقيا بعد الغياب الطويل، نطل على فلسطين وعلى بيوتها المتوائمة مع البيوت في أي بقعة من الشام ولبنان، تلك التي طرق الرجلان أبوابها، يقابلان بالترحيب العفوي وأحاديث ناسها التي اعتادها الأب وباتت مثار نزق شادي إذ انطوت على الكثير من الأسئلة والاستفسارات التي لم يكن ينتظرها.
– كيف أمريكا؟ تسأله العجوز وهي تظن أنه رحل إلى حيث والدته تقيم.
– إيطاليا، إيطاليا خالتي يجيبها شادي، ويستنكر على والده الذي أخفى ليس وجهة سفره فقط بل وطبيعة دراسته “ليش قلت عني دكتور، أنا مش دكتور”.
ويمضي الفيلم المبني على الكوميديا السوداء التي من خلالها نكتشف تلك العلاقة الشائكة، والأبعاد النفسية والاجتماعية والسياسية المتعلقة بها بشكل خاص وبالواقع المعقد المعاش على الأرض الفلسطينية، بشكل أكثر خصوصية حيث التّماس على أشده ما بين أصحاب الأرض والمحتل.
وتجري الحوارات بين الاثنين، حيث لا يحمل أحدهما للآخر سوى الحب الشديد، لكنهما بالمقابل لا يفهم أحدهما الآخر بشكل كامل. وفي المكان الذي مع الوقت بات أضيق من سجن، في هذه الحال لا بد سيخيم التوتر بينهما، بينما لا مجال لهرب أحدهما من الآخر. وحين تصل السيارة إلى مدخل المستوطنة القريبة سيكون الحوار الأهم فيتّضح الخلاف الأكبر.
يتساءل شادي متوجساً عن الضيف الذي يقيم في المستوطنة، وحين يعلم أنه الإسرائيلي “روني” يستحكمه الغضب إذ ضيف الأب ليس سوى أحد عناصر الشاباك “جاسوس يابا، شغلتو يوصل تقارير عن شو بيعملوا بالمدارس العربية” يقول لوالده:
– “مش متذكر يوم إجا لعنا، كنت مفتكر إنها صدفة، سحبوني تاني يوم ع التحقيق”.
– “قلتلك كان عم يحاول يساعدنا”، يقول الأب.
– “إنو بينصحك تبعت ابنك لبرّه، عشان ما يصرش عليي إشي؟ هدفوا الزلمي إنو يطلع الفلسطينيين لبرّه، طبعاً بدوياني بره، بدهن يانا كلنا برّه.
إنت لولاي كنت ورطتنا، إنت وصحابك عملتولي تنظيم، وهو النادي السينمائي الذي شكّله شادي مع أصدقائه”.
– نادي سينمائي وكل الأفلام سياسية وتحريضية!! يصرخ الأب بشادي ويتهمه بأنه بات من أولئك المؤمنين بنظرية المؤامرة “أنا اللي قررت ابعتك لبرّه، مش روني وعشانك، وشو عملت إنت، صاحبت بنت واحد مهم من المنظمة؟”.
وهؤلاء في رأي أبو شادي المصاب بكل أنواع الخيبات ليسوا سوى المستفيدين من القضية، يعيشون على أكتاف الناس ومن أرزاقهم” كمان عاملي ياه بطل ومثقف، ما هو القصر اللي عايش فيه ع حساب مين؟ والسيارة اللي راكبها بطعمي مخيم لاجئين، وبتقللي روني”.
سوف يتمسك كل منهما بموقفه، الأب يريد الاستمرار بالدعوة ويصر شادي على الرفض، يتصاعد الأمر بين أخذ ورد أب ينعت ابنه بأنه رجل مبادئ، وابن يتهم والده بالتعاون إن لم يكن بالخيانة، وهي صورة السجال والجدال المستديم ما بين أطراف وجهات ومؤسسات كبرى ودول.
ورغم التصعيد المستمر واتضاح الاختلاف والخلاف ما بين الاثنين، إلا أن صانعة الفيلم تتجه إلى البقاء على الحياد إذ لم تنتصر لأحد بل لعلها فضلت تفريغ الحوار من الأثر، تترك الحال على ما هو عليه كما أتى المشهد الأخير، وقد تغاضى كل منهما عن أخطاء الآخر، يتناولان قهوتهما على الشرفة وقد جلس أحدهما مقابل الآخر، وتمتد يداهما إلى ذات علبة الدخان برغم ادعاء الاثنين التخلي عن التدخين نهائياً، لتبقى النهاية مفتوحة على كل الاحتمالات إذ الأسئلة باقية دون أجوبة حتمية، والإشكالات قائمة دون حلول واضحة، الأمر الذي أثار الجدل حوله بين من رأى فيه باباً موارباً على التطبيع برغم مواقف مخرجته والعاملين فيه الرافضة للفعاليات التي يتواجد فيها الإسرائيليون، أو تلك التي يشاركون بدعمها.
بشرى الحكيم