مهرجانات الصيف والناس الشام بتجمعنا.. بين الرضا والحياة
أماسي حديقة تشرين الصيفية مكتظة غالبا بالناس البسطاء الطيبين، الذين يرون المتعة في كأس شاي قرب “عِرق” أخضر ونافورة ماء، لكنها هذه الأيام، تزداد رئتيها اتساعا بأحبتها، أولئك الذين جاؤوا إليها من كل فج عميق ليفرحوا، وهذا ما وعد به القائمون على مهرجان “الشام بتجمعنا”، حيث أقيمت على مساحتها الواسعة، فعاليات هذا المهرجان، التي لا يكفيها يوم ولا حتى يومان، للتعرف على معظمها، سواء كانت فعاليات فنية أو ترفيهية، أو اجتماعية، وغيرها، عدا عن المؤسسات الصناعية الكبرى منها والصغرى، تلك التي تموضعت بين ربوع “حديقة العشاق” كما تُسمى، متنفسا لعرض بضائعها المتنوعة، والتي جاءت بمعظمها غذائية غالبا، إلكترونية، فنية، اكسسوارات، اتصالات وغيرها.
ورغم أنه لا يوجد كرسيا واحدا تقريبا شاغرا في الحديقة من كراسيها، عدا عن تلك الكراسي المصطفة حول طاولات شبه فارغة، وذلك لأن مجرد الجلوس عليها دون طلب أي شيء يترتب عليه الدفع مسبقا من 1000 ليرة سورية إلى 2000 أو حسب الزبون وضيوفه، وذلك لقاء”فتح طاولة”!، رغم عدم توفر أمكنة للجلوس إلا على العشب، بسبب الزحام الشديد، إلا أن المتعة واللقاء بالناس، وتنفس روائحهم الأليفة، وحبهم وشوقهم للقاء، هو السيد في ذاك المهرجان، هذا ما ذهبت إليه السيدة “لميس” -40 عاما- في حديثها: “في الحقيقة هذه اللمة السورية لوحدها تُفرح القلب، وتعيدنا لأيام الأمن والهدوء والطمأنينة، لقد اشتقنا لبعضنا البعض، لوجوهنا مبتسمة، ولأوجه الأطفال والكبار أيضا مبتسمة، وهذا يحققه اللقاء الإنساني أولا، إلا أن واقع المهرجان بسبب أن قسما كبيرا منه لبيع المنتجات والبضائع، لم يتغير عليه شيء بتغير المكان، فالأسعار نفسها هنا وفي الخارج، وهناك بضائع أعلى ثمنا حتى”.
أطفال صغار يروحون ويجيئون، والصيف فرح بصخبهم، هذا أب يوصي ابنه ألا يبتعد عنه في هذا الزحام، وتلك صبية تأخذ “سيلفي” مع صديقاتها أمام قفص الدب، وهذه دراجة يعتليها شاب طائش يقود دراجته الهوائية على عجلة واحدة، مقدما عرضا بصريا حياً، خصوصا وأن دراجته، مزينة بالكثير من الأضواء؛ إنها الحياة تمرّ بين تلك الدروب والممرات، التي لطالما اعتادتها، ثم فقدت بعضا منها عندما أخرجت الحرب أثقالها، وها هي مرة أخرى تكسر كل قيد وتصعد لتسمو، ولكن هذا لا يمنع أن تنخفض أخلاقياتها في محال أخرى كما يخبرنا الأستاذ “غسان” -56 عاما-: “هذا مهرجان يُقام لضخ البهجة أولا في القلوب، لكن الفقير لن يعرف تلك البهجة، إلا إذا شمها ربما من محال الطعام المتواجدة في المكان، والتي تكاد أسعار المأكولات فيها من الفلافل والشاورما وغيرها، لا يجعل لأسرة مثل أسرتي المكونة من 6 أشخاص، أن تفكر بالموضوع، خصوصا وأننا قطعنا نصف الشهر، يعني ما قد نضعه ثمن 6 “سندويشات” لا تشبع الواحدة منها ولدا، يكفينا مصروف طعام في البيت لأسبوع، فكيف للفقير أن يعرف البهجة، إن لم يرها في عيون أولاده التي لها أن تشتهي فقط؟”.
في مختلف أنحاء المكان، انتشرت أيضا حالة فنية تشكيلية، ولكن على وجوه الأطفال والفتية، الذين يقوم أحد الفنانين الموجودين ومقابل 300 ليرة سورية، برسم الشكل الذي يختاره الطفل من لوحة معلقة قربه، على الوجه، وهكذا حضرت أوجهاً لأبطال كرتون هذا الزمان، “سبايدرمان، فلة، كاتي كاتي، أنغري بيرد..الخ” وغاب “عدنان ولينا، ساسوكي، سيلفر، فلونة، وغيرهم”، وما كان مبهجا لأطفال البارحة، لم يعد هو ما يعني أطفال اليوم، خصوصا وأن ثمة جيلا منهم، ولد وتربى خلال السنوات الـ 8 تقريبا بما حملته بين أيامها الصعبة، وما يعيه عن الحياة، هو ما يعيه عن الحرب، فهكذا تعرف على الحياة؛ حول هذه النقطة تكلمت د. “سحر”-38- عاما- قائلة: “الأطفال لم يعد يغريهم اللعب بالألعاب التي كانت يوما ما كل متعتنا، لا الأرجوحة ولا “الزحليطة” وغيرها من ألعاب طفولتنا، ورغم أنها متوفرة في المهرجان كما ترى، لكن الألعاب الإلكترونية هي ما تشغل بالهم، وهي ليست ألعابا، بقدر ماهي تكريس للوهن في العقل والجسم، فالحياة ليست سهلة وحاجتنا للقاء كسوريين ملحة في هذا الوقت بالتحديد، خصوصا وانتصارات جيشنا الكريم تمتد على كامل الديار، وعودة أهلنا الغائبين باتت وشيكة، علها تكون مهرجانا أيضا للنصر وللخير ولعودة الأمان لبلد الحضارة والحياة”.
ما من رضا مطلق بخصوص موضوع الأسعار، سواء من الباعة، أو من المشترين: “الزبون وكأنه لا يعلم ماهي أسعار المواد الأولية، ولا يعنيه أننا نقف على أقدامنا من الظهر إلى آخر اليوم، فمن الطبيعي أن تكون الأسعار هكذا، وأنا أجدها مقبولة عموما، ولكن كما تعلم الكثير من رواد هذا المهرجان، هم من الفقراء عموما، لا تؤاخذني” الغني يمكن لا يعلم ماهي البضائع التي هنا، والفقير لا يقوي حركة البيع والشراء، فلو كنت أبيع باليوم ألف سندويشة مثلا، بالتأكيد سيكون السعر أقل، ولكن كيف إن لم أبع ربع هذا العدد، كيف لي أن أعطي العمال أجرهم، وأن أخذ أنا أجري، بل وأعيد التجربة في حال خرجت خاسرا”.
بالتأكيد حالة الرضا التام عن الفعاليات والخدمات خصوصا بما يتعلق بأسعارها، ليس حالا عاما في مهرجان “الشام بتجمعنا”، إلا أن الرضا كل الرضا، والسرور كل السرور، هو في رؤية تلك الوجوه الطيبة وهي تبتسم تلقائيا لأنها أخيرا في محيط طبيعي، وبين من يعرف معنى الابتسامة، بكونها سلاما ولكن من الروح.
تمّام علي بركات