ثقافةصحيفة البعث

“الآخرون ميتون على الحواف” في شعرية الاختلاف

 

أين تضع القصائد أوزارها؟ هي مغامرة في اللغة، دهشة واكتشاف، والأدلّ هو حركة الشعرية واحتدام صورها، سواء في تشكيلها اللغوي، أم في طريقتها لتبث تلك المرئيات، والانخطافات اللاواعية، لتستوي في قول شعري صافٍ، يبشر بالاختلاف إذ الجمال في الاختلاف، ربما كان للحداثة الشعرية غير مقام تتبدى به، لكننا مع ديوان الشاعر تمام بركات (الآخرون ميتون على الحواف)، سننتبه أكثر إلى حوامل تلك الشعرية المضافة، بطريقتها وتعبير صورها، صورها الطاعنة بالدهشة وباحتمالات الانفتاح الدلالي على الذائقة الجمعية والفردية بآن معاً وبالمقابل، فإن ما تواضع عليه النقاد من القول بشعرية الحداثة، سوف يتبدى لنا بطبيعة المغامرة الشعرية التي تذهب بالقصيدة إلى أمداء رحيبة من التأويل والتخصيب للنصوص، بوصفها أيضاً إحدى تجليات المغامرة على مستوى الصوغ، والاجتراح والومضات الكثيفة، بل التوقيعات التي تشي بالقدرة على المغايرة: (أطفأت البيت، هل تسمعين/ هل تسمعين الضوء يئن في بالي/ من فرط العتمة.. في خاطرك أقعد/ أحرس وروده).
ومع احتدام الصورة: (عطرك يفوح بصوت عالٍ)، نظل مع ثيمة الحب وتطييفها في مناخات تجهر بأفعال الشعر وانثيالات القصائد في جرأة متخيلها، وفي جدلية تماثلها واختلافها، لتقيم حواراً مع الذات بوصفها آخر، ومع الآخر بوصفه ترجيعاً لهذه الذات: (ابتسم/ محفوظاً من التلف/ في كلوروفورم الضوء/ أيها الناجي الوحيد/ من مقتلة مربع الورق/ الآخرون ميتون على الحواف).
ولعل الحامل الدلالي لـ (الآخرون) سوف يتبدى بكل ما يتواتر من قصائد مسكونة بالارتياب والحذر، وما يجري من استبطان للحدوس والتصورات وتقشير المعنى سيحيلنا لتجليات شعرية الحداثة التي لا تتخفف من تعبير رؤيتها، إذ لا حداثة بلا رؤيا، هكذا يحملنا الشاعر بركات في محكيّه الشعري، الأدل في انخطافاته إلى ما تشي به الأشياء والناس والأصدقاء، في مرايا الحب والفقد والاحتفال بالحضور العابر.
تبدو النصوص أكثر من (بورتريهات) لكنها وهي تذهب إلى تشكيل معمارها، تبدو قصديات النصوص على الأرجح في استبطان ثيمة الموت: (ناموا/ موتاً هانئاً/ وتركوا صوتاً غائم الرائحة/ متكئاً على إصبع)، وثيمة الحب.
ولأن عناوين قصائده تشي بغير احتمال للقصيدة على الرغم من وضوحها الضروري، واشتباكها مع متن يشيع فيه المُفكر به واللامفكر به، المحلوم به والعابر للأوقات وللحدوس (أسمي الوهن مكاناً، مصبات القطيعة، ضوء متقطع، شعر مقصوص، نشيد حماسي) على سبيل المثال فإنها تصطفي في متخيلها الشعري ما هو ممكن بالضرورة، أي في احتمالات المعنى المتعدد.
في حواريات الأنا والآخر، تنساب الأفعال والضمائر مجترحة توليدها للحالات والانكشافات، لتتكثف في شعرية الأسئلة الناهضة من غيبوباتها الواعية: (إنني يا إلهي جيش من القلق/ من يحرس يفاعتي/ من نوم يتداولني… أهترئ/ من يلم لحمي عن سياج الأهل) وأيضاً (يا نوم/ قم وخذ انتباهي لأنتبه/ يا نوم سهل مروري إليك/ وافتح الشباك لحبيبي/ كاد قلبي يذبل يا نوم).
وتبلغ الصورة ضراوتها في ما يؤول إليه الصوت، حين يقول الشاعر: (السكين صوتي/ ما صحت إلا وفزت/ بالخرس/ السكين صوتي/ فمي مجروح بالنداء).
هو الاسم في فضاء الدلالة تعدد لا حيازة الغنائي في اللغة، بقدر ما هو اشتباك في الدلالة، ليسفر الشعر عن رؤيته متجاوزاً السائد، ومحرراً المعنى ليعطي للصوت غير دلالة، في مساحات البياض الراعش بالحضور.
ولعلنا نرى ما يشبه الاكتمال، حينما يأتي النثر طليقاً إلا من شعريته، في نصه (أستطيع أن أربي مسرحاً في حنيني)، إذ لا يقوم النص هنا على التقاط ما هو جوهري واستثنائي، ولا يغدق في التفاصيل سوى ما ينتخب منها شعرية التأمل (لا تيأس الروح أن تكون ذاتها حتى في النوم.. ثمة ما يدفع الحياة في أجسادنا كلقمة تحشرج في الحلق لا كننا لا نختنق.. إذا كنت لا تؤمن بوجود الحب، فهذا يعني أنه ملتصق بك كثيابك، فنحن غالباً ما نخون أجسادنا، ونقايض يومنا بيوم أقل).
هذا النص الذي يقوم على محاورة الشعر وشاعر غائب مسند إليه، يدفع لأفعال المغامرة الشعرية إلى ذروتها، إذ يقول الشاعر: (هل تقصد فعلاً أن التشابه للرمال وأنت للأزرق، أم أنك الشبه ذاته على الرمل، أو في الأزرق لا فرق ما دمت أنت أنت لست أحمد العربي).
الشعر حوار وما يمكننا قوله هنا، بأن ثمة نصوص مثقفة ما تزال تحمل قارئها على أن يثق، بأن الشعر في نهايات القرن ما زال فعل خلاص.
* الآخرون ميتون على الحواف- منشورات وزارة الثقافة- الهيئة العامة السورية للكتاب
أحمد علي هلال