على شاشة التلفاز فجوة علمية ومعرفية تخلقها قنوات الطفولة.. وترسيخ مفاهيم وقيم تتنافى مع المجتمع!
يتميز عالم الأطفال بالخيال الواسع، وأحلام اليقظة، وهي شرط أساسي لبنائه فكرياً وأخلاقياً، ويستقي الطفل معظم أفكاره وتخيلاته من البيئة التي يعيش فيها، فهي تحفز لديه العمليات الذهنية، بالإضافة إلى تأثير هذه البيئة على مفاهيمه التي تتكون بطريقة تراكمية مما يشاهده أمامه، لتتحول تلك المفاهيم فيما بعد إلى سلوك وطريقة حياة بالنسبة له، لكن ابتعاد الطفل عن اللعب في الحدائق، والمزارع الطبيعية، وحجزه ضمن المنزل أو المدرسة، يكرّس خضوع الطفل للعالم الضيق المرتبط بشاشات التلفزة، وما تبثه من برامج مخصصة له كمنهل وحيد أمامه لاكتساب مداركه وآفاقه العلمية والأدبية، وتكمن الخطورة هنا بعدم وجود رقيب وموّجه لما يتعرّض له الطفل من معلومات وأفكار قد تكون موجهة بطريقة سلبية، وبذلك فإنها تعمل على وضع فجوة كبيرة بين واقعه ومجتمعه، وما يتلقاه عبر هذه البرامج من قيم وأخلاق تتنافى مع القيم الإنسانية والأخلاقية التي يجب عليه الانتماء لها، ومع مرور الوقت تخلق هذه الفجوة خلافاً كبيراً بينه وبين أسرته وأهله الذين بدورهم لن يتقبّلوا تلك المفاهيم. الفضاء المفتوح
عصر الفضاء المفتوح سمح للعديد من القنوات في العالم ببث برامج عديدة مختلفة في مستواها ومحتواها الأخلاقي، ولم يعد بالإمكان السيطرة على تلك القنوات أو ضبطها، وخاصة أن لكل محطة توجهها الخاص بسياسة القناة، ولعل أخطرها التي تبث مسلسلات خالية المضمون أو عبثية تدعو للفوضى والتخريب والعنف، وقد تحمل في معظم أفلامها إيحاءات غير مهذبة ومنافية للأخلاق، الدكتور النفسي رمضان محفوري يؤكد على خطورة تلك القنوات على تربية الطفل، خاصة أن التلفاز أصبح الوسيلة الأكثر حضوراً اليوم، حيث ألغى الكتاب، والصحف، والإذاعة، وغيرها من الوسائل التي كانت سبيلاً لاكتساب المعرفة والعلم، ولذلك فإن خطورة هذه البرامج تعدت جميع الثقافات، واخترقت عالم الأسرة لتزرع مفاهيم غريبة قد لا تتناسب مع الكثير من المجتمعات، وخاصة مجتمعنا العربي بشكل عام، والسوري بشكل خاص، لأنه مجتمع يحرص فيه الجميع على الآداب العامة، والأخلاق، والقيم الاجتماعية المجذّرة فيه.
صراع الآباء
يرتبط الدور الحقيقي لبرامج وقنوات الأطفال بتنمية مدركات الطفل ومواهبه، وحث مخيلته على الابتكار والإبداع، وهذا ما نفتقده بتلك القنوات التي يبدو أنها وسيلة لجني الأموال، وكسب أكبر عدد من الدعايات والإعلانات، ويرى محفوري أن هذه القنوات تخلق صراعاً حقيقياً بين الأهل والطفل، لأن ما يكتسبه لا يمكن أن يتناسب أو يتوافق مع تربية الآباء، وهذا ما يسبب عزلة للطفل، وهروبه إلى تلك البرامج التي بدأ يتوافق مع أفكارها ومعطياتها، ولعل أخطر ما في الأمر هو صعوبة السيطرة على تلك القنوات والبرامج والتحكم بها أو منعها عن الأطفال، وخاصة إذا كان الأبوان لا يتمتعان بثقافة كافية لإدراك تأثير تلك القنوات على أبنائهم، ويصبحان غير قادرين على فهم الفجوة المعرفية الحاصلة نتيجة ذلك، ويؤكد محفوري أن غياب المراكز الترفيهية والتربوية والأماكن المناسبة للعب الأطفال بطريقة صحيحة يعتبر عاملاً هاماً لتكريس سيطرة تلك القنوات كمنفذ ووسيلة ترفيهية للطفل رغم خطورتها.
فجوة معرفية
تميزت برامج الأطفال خلال السبعينيات والثمانينيات بنوع هادف لتلك البرامج، وكانت معظمها تعتمد على غرز القيم النبيلة والإنسانية في وجدان الطفل كحب الأبوين، واحترام الأصدقاء، والمعاملة الحسنة للجيران والأقارب، وغيرها من المفاهيم المتعلقة بالحفاظ على الطبيعة، والحيوان، وكانت معظم القصص المطروحة في تلك الفترة تعتمد على القصص والروايات العالمية، منها بائعة الكبريت، وريمي، وغيرهما، كما كانت تحافظ على جمال الصورة، والكلمة، وفصاحة التعبير، بينما تعتمد برامج الأطفال حالياً على الرسومات الغريبة والمقززة، والأشكال غير المحببة كشخصية غامبو على سبيل المثال، وذلك إلى جانب الألفاظ المعيبة والهزيلة المتداولة بين الشخصيات الكرتونية، والتي تعتمد على السب والشتيمة، وتبيّن الدكتورة الاجتماعية مها عبد الله أن جميع الأبحاث تشير إلى التأثير السلبي التراكمي لتلك البرامج، وإلى الخطر القادم نتيجة ترسيخها في عقول الأطفال كواقع حقيقي لهم، حيث تتحول إلى سموم اجتماعية قاتلة لا يمكن لجمها بسهولة، وخاصة عندما يحاول الأطفال التعايش والاندماج بأحداثها وشخصياتها في إطار خصوصيتهم وهويتهم التي يفرضها عليهم المجتمع، وبذلك تتفاقم المشكلة، وتصبح أكثر تعقيداً.
توعية تربوية
يفرض هذا الواقع ضرورة البحث عن الحلول المجدية التي تمنع استغلال عقول الأطفال، وتسخيفها، وحضها على العنف والتخريب، وغير ذلك، وهنا تضيف الدكتورة الاجتماعية عبد الله دور الجمعيات الأهلية، والمنظمات الشعبية، والمدارس في التوعية للمخاطر التي يتعرّض لها الطفل عبر مشاهدته لتلك البرامج، وأهمية التوجه إلى الأسرة بشكل خاص، وشرح سلبيات مشاهدة تلك القنوات، وتأثيرها على عقول الأطفال، وإيجاد السبل العلمية والإرشادية لتوجيه الأطفال، وإبعادهم عن هذه المؤثرات الأخلاقية بطريقة معرفية وعلمية مقنعة خوفاً من نفورهم وتمسكهم بما يشاهدونه، خاصة للذين أصبحوا أكثر تشبثاً بهذا النوع من البرامج، كما يمكن الكشف عن طرق إزالة هذه القنوات من التلفاز، والاعتماد على تلك التي تتناسب مع مجتمعنا، وذلك مع عدم خلق نزاع أو مشكلة مع الأبناء عن طريق الترغيب المحبب للقنوات المختارة لهم بعناية، وحثهم على متابعة البرامج الهادفة الغنية بالعلم والمعرفة.
ميادة حسن