قمة هلسنكي– المخاطر والفرص
عبد الله الأحمد
تتسارع الأحداث، ويتفاقم الصراع، وفي كل مرحلة مخاطر وفرص ، حيث إن العالم قد دخل في مرحلة غير مستقرة نتيجة تغيرات دراماتيكية لا يمكن أن تستقر إلا مع الوصول إلى مرحلة توازن في المسارات الجيوسياسية تحدد من خلالها أوزان الدول الكبرى ونفوذها، وإلى ذلك الحين فالصراع مستمر، وليس هناك ضمان بأن يكون الصراع قابلاً للضبط.
مؤشرات تفاقم الصراع قد تكون اقتصادية تارة، كما يحدث ما بين الولايات المتحدة من جهة، والصين وروسيا من جهة أخرى، وإعلامية وسياسية تارة أخرى، كالتصعيد الإعلامي والسياسي الخطير على إثر قضية الجاسوس الروسي سكريبال.
تدرك الولايات المتحدة أن الاحتفاظ بنفوذها وهيمنتها الأحادية على العالم أصبح من المحال، فالحفاظ على هذا النفاذ يحتاج إلى اقتصاد قوي، وتدفقات مالية نشطة، وهذا ما تعاني منه ويقلق الولايات المتحدة الأمريكية حالياً، ويدفعها إلى القرصنة وسلب أموال الشعوب، وفرض الأتاوات مقابل الحماية، كما فعلت مع “مماليك” الخليج، ولم يقتصر ذلك على تلك الدول التابعة، وإنما شمل أعضاء حلف الناتو، وبشكل فج ألمانيا مثالاً.
من الواضح أن إدارة ترامب سوف تستمر في سياساتها الحالية، بتبني استراتيجية متوسطة المدى من أجل مواجهة صعود القوى المنافسة، أي روسيا والصين، ومن غير المحتمل أن نرى أية تغيرات في الموقف الأوروبي الذي يدور في الفلك الأمريكي، كون أوروبا لا تمتلك الإرادة أو القدرة على الرفض.
المقدمات تشير إلى النتائج، فهل غيّرت قمة ترامب بوتين هذا الواقع، أم أن هذه القمة هي نقطة العودة الرسمية للحرب الباردة، كون فنلندا التي تستضيف هذه القمة، المحايدة رسمياً
خلال الحرب الباردة، وليست عضواً في الناتو؟!.
وبغض النظر عن التصريحات الإيجابية التي صدرت عن الجانب الأمريكي والروسي قبل القمة وخلال المؤتمر الصحفي لـ بوتين وترامب، إلا أن هذه القمة لن تؤدي إلى تسويات حقيقية تشمل مناطق الصراع المختلفة، حيث إن الهدف من القمة في الدرجة الأولى هو تهدئة التوترات بين الولايات المتحدة وروسيا، وإدارة الصراع، رغم توافقات الخطوط العريضة حول النفط والغاز، وأمن السايبر، والتسلح.
ولكن ماذا عن الأزمة السورية؟ وهل أقرت الولايات المتحدة بالهزيمة في سورية، وأصبح انسحابها من التنف والشرق السوري مسألة وقت؟ ولماذا تربط انسحاب قواتها المحتلة بالتواجد الإيراني المحدود والشرعي في سورية؟.
في سورية وبعد التغيرات الاستراتيجية في الميدان من الغوطة الشرقية إلى الجنوب السوري ومعبر نصيب، تدرك الولايات الأمريكية أن بقاءها في قاعدة التنف المعزولة أصبح غير ممكن، ولهذا نرى انسحاباً أمريكياً قريباً منها، إلا أنها سوف تمارس المراوغة والتضليل في الشرق السوري مستخدمة القوى الوكيلة “قسد” من أجل استمرار الاحتلال الأمريكي في الشرق، بالإضافة إلى الاستمرار في تنفيذ المشروع الأمريكي للشمال السوري، مستخدمة تركيا لتكريس احتلالها لأجزاء من شمال سورية، حيث تعمل على إقناع الانفصاليين بالتأثيرات “الإيجابية” المفترضة لخارطة الطريق في منبج على استقرار الأوضاع في شرق الفرات، ومحاولة إقناعهم بالابتعاد عن “قنديل”، والمصالحة مع تركيا.
إذاً الولايات المتحدة الأمريكية تسعى إلى عرقلة التسوية وإطالة أمد الأزمة في سورية، إضافة إلى إعادة إنتاج الأزمة في العراق- ما يحدث الآن في العراق من فوضى واضطرابات كان متوقعاً- لأن هزيمة الإرهاب والوصول إلى الاستقرار في سورية والعراق يعني إنهاء النفوذ الأمريكي في المنطقة، وهذا ما تحاول الولايات المتحدة عرقلته بحجة محاربة “داعش” ومواجهة “النفوذ المفترض” في المنطقة، وهذا ما عبّر عنه دينس روس في مقالة لمعهد واشنطن: “إنّ الولايات المتحدة ستحافظ على وجودها الصغير في سورية إلى أن يختفي تنظيم “داعش”، والولايات المتحدة ستدعم “الإسرائيليين” بشكل كامل، ما يجعل من مصلحة بوتين منع حصول تصعيد إقليمي كبير، وحتى بإمكان ترامب أن يقترح قيام الرّوس بالتوسّط في وضع مجموعة من الخطوط الحمراء.
على الرغم من التسليم الأمريكي بأن الحرب قد حسمت لصالح سورية وحلفائها، إلا أن المخاطر مازالت قائمة، ولابد من العمل لتحويل هذه المخاطر إلى فرص، من خلال الاستمرار في تحرير الأرض السورية، وإعداد ما يلزم لمواجهة المشروع التركي- الأمريكي في الشمال والشرق السوري، والإعداد أيضاً لمواجهة أية مغامرات “إسرائيلية”- أمريكية محتملة.
وعلى الانفصاليين عدم الرهان على الولايات المتحدة لأنه رهان خاسر، وعليهم الإدراك بأن الدولة السورية هي ضمان الحماية والكرامة، وهي الملاذ لكل السوريين، فأبواب دمشق مفتوحة، وستعود القامشلي والحسكة وريف دير الزور ومدينة الرقة محرره بالكامل بقوة الدولة سياسياً كان ذلك أو عسكرياً.
قمة هلسنكي هي مسار يؤسس لواقع “الحرب الباردة” رغم نفي الرئيس بوتين لذلك، وترويج ترامب لمبدأ التنافس وليس الصراع، فالسياق يدل على صراع متزايد، ودون قواعد أو قيود في بعض الأحيان، إلا أنه ورغم المخاطر، فالانقلاب الاستراتيجي لصالح سورية وحلفائها غير قابل للتغير، ولن يستطع ترامب المناورة كثيراً، وحديثه عن السعي لضمان أمن “إسرائيل” ما هو إلا إقرار بأن خطوط الولايات الحمراء ورهانات الكيان الصهيوني قد سقطت، فالمناطق والمدن السورية تتحرر، وسورية تعود قوية، لم نربح الحرب بعد، فمازلنا نحارب، إلا أننا نقترب أكثر من تحقيق الانتصار.