“اللغة العربية والعولمة.. التحديات والآفاق
يغوص عالمنا المعاصر اليوم في متاهات العولمة التي باتت تزف بشراها بنهاية التاريخ، وتشكل مخاضاً استثنائياً لولادة إنسانها الجديد المتحلل من كل انتماءاته السابقة إليها، وعليه فإن العولمة غدت تمد أذرعها لتتغلغل في شتى مجالات الحياة الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والثقافية معلنة حضورها بصخب مؤثر في عديد من الميادين.
وفي ظل هذا العصر العولمي الذي بدأت بصماته، وآثاره تظهر بشكل جلي على مختلف نشاطاتنا، وتتسلل إلى حيواتنا، قد يتساءل أحدنا ما هو حال لغة العرب القومية، وجامعة علومهم، وأدبهم، وبيانهم، أي اللغة العربية في زمن العولمة؟ هذا ما يحاول أن يتناوله بالبحث والدراسة كتيب (اللغة العربية في زمن العولمة… التحديات والآفاق)، تأليف: د. وفيق سليطين، والصادر مؤخراً عن الهيئة العامة السورية للكتاب ضمن سلسلة “قضايا لغوية”.
يشرع المؤلف في المقدمة بالحديث عن العولمة موضحاً أن عالم اليوم باتت تخترقه تقانات الاتصال والمعلومات، وتجتاح كياناته القديمة، وتتحكم فيها بآليات ما بعد حديثة للإلحاق والاستتباع، من شأنها أن تملي الذوبان والتماهي بمركز الإنتاج والتحكم وصناعة الثقافة، على قاعدة إفلاس الأطراف، وتفكك المقومات الذاتية لهويات شعوبها التي تعاني العجز والاندحار الثقافي والحضاري، فلا يبقى لها إلا أن ترتمي في لجة التيار العولمي. وعليه يؤكد المؤلف أهمية العناية باللغة على اعتبار أن لسان الأمة – كما يقول همبولت– هو جزء من عقليتها، كما أن روح الشعب هي لغته، ولكن دون أن يكون ذلك تعويضاً عن الفوات الحضاري، كما ينبغي أن يكون بعيداً عن التركيز على اللغة في ذاتها، إذ يبين د. سليطين أن تحديث اللغة، واختزال وجوه التعقيد في أنظمتها، وجعلها مساوقة لمستجدات الحياة في مختلف الشؤون، قد تم تجريبه داخل المؤسسات المعنية من جامعات، ومراكز قومية، ومجامع لغوية، إلا أن ذلك كله لم يكن ليفضي إلى النتائج المنشودة، كون هذه المؤسسات ترى أن معالجة مشكلة اللغة تقوم داخل اللغة نفسها. وعليه يرى المؤلف أننا إذا ما أردنا تنمية رأس مالنا الرمزي الذي تمثله اللغة، وجب أن يكون لنا موقع على خرائط التغيير، نعززه بالمشاركة، وبالإسهام فيما يجري دفعاً أو تعديلاً، متسلحين بأدوات العصر ومعارفه.
نقد التجديد النهضوي
قُسم الكتيب إلى ثلاثة فصول تناول الفصل الأول الذي حمل عنوان (نقد التجديد النهضوي) الحديث عن جهود النهضويين العرب، وتوجهاتهم إلى تحديث اللغة التي توخوا من ورائها إحداث تغيير اجتماعي يرتقي بواقع الحال إلى أفق أعلى، ويهيئ لوعي إشكالية العلاقة بالآخر والتماس سبل مواجهتها. فكان تركيزهم على نظام التعليم ومؤسساته سبيلاً إلى ذلك، على قاعدة الربط بين تحديث اللغة واكتساب المعرفة العلمية والأخذ بأسباب التمدن، أي توفير الشروط لإحداث النهضة المأمولة. لكن انتحاء هذا السبيل لم يكن بمأمن من العواقب، ذلك أن تحديث اللغة بفتحها على ثقافة الآخر وعلومه، فرض قدراً من المزاوجة بين القديم والحديث، أي شرح الجديد بدلالة القديم التماساً لتسويغه وإدراجه في نظام لغوي ثقافي محافظ يقره المجتمع ويعترف به.
نقد التصورات الجزئية
جزئ هذا الفصل إلى بابين تناول الباب الأول المعنون بـ (المجال التعليمي وإصلاح النحو) الحديث عن مساعي النحويين العرب في مجال التصدي للمشكلات التي تراكمت على الدرس النحوي، لاختصار التعقيد فيه، وتخليصه من ضروب المعاطلة، وإعادة ربطه بالحياة. بيد أن تلك المحاولات – بحسب المؤلف – كانت قليلة المحصول، محدودة الجدوى، مما برهن على ضرورة البدء بتعصير النحو قبل تيسيره.
في الباب الثاني (المجال الثقافي وتحديث اللغة) يبين د. سليطين أن عملية تحديث اللغة لا تؤتي أكلها من داخل المؤسسات التربوية والثقافية. فمثل هذه التعديلات لا يعدو أن يكون إجراء عارضاً يستبقي القديم في تلوينه له، ويثبت نظامه في دعوى تحديثه، فيكفّ عن إنتاج القطع من حيث هو ثورة ثقافية تعم المجتمع، وتُنفذ أثرها في أبنيته المختلفة، فتخترقها معاً.
اللغة العربية وتحولات العولمة
في هذا الفصل يتحدث المؤلف عن العولمة ويرى أن تدبر المسألة اللغوية الآن ازداد تعقيداً، في ظل ما ترسيه العولمة من “إمبريالية لغوية”، فاللغة القومية باتت مهددة بالانحسار والتلاشي أمام لغة الغالب الحاملة للتحولات الجديدة، والحاكمة لمجتمع المعرفة والتواصل وتدفق المعلومات. وعلى ذلك، وأمام هذا الوضع الذي يزداد تأزماً ينبغي الركون إلى مواجهة عقلانية تكبح حركة التدهور، وتستنفر الإمكانات الذاتية لاجتراح سبل المواجهة المجدية، بدلاً من الاستنامة إلى ما توهم به العولمة في جانبها الإيديولوجي. لذلك – وبحسب المؤلف – ينبغي العمل بجرأة ومغامرة رائدة لا على نقل الفكر من العالم وحسب، بل على اللغة أيضاً أن تعمل على بناها العميقة والسطحية، بهدف الوصول في النهاية إلى إنجاز جوهري وهو توسيع اللغة.
سلام الفاضل