قمة بوتين ترامب والخيارات الاستراتيجية
د. سليم بركات
بدأ العالم يضيق ذرعاً بسياسة النفاق الأمريكية، وبالتالي أصبح أكثر كرهاً لمفهوم عالم أحادي القطبية، والسبب في كل ذلك النظرة المتعالية المشبعة بالأنانية التي تنظر بها الولايات المتحدة الأمريكية لدول العالم، وهي نظرة تحاول فرضها قيماً على البشرية، بعد أن اعتبرتها رسالة، حملتها بيد، وحملت السيف باليد الأخرى، وكأنها وريث الله على الأرض.
بعد 11 أيلول 2001، وتحت مبررات الأمن القومي الأمريكي، وضمان أمن إسرائيل، وتأمين نفط الخليج، والسيطرة على موارد الطاقة، خرجت الإدارات الأمريكية المتعاقبة إلى الحروب في مناطق متعددة من العالم (حرب الخليج الأولى، حرب الخليج الثانية، حرب أفغانستان..)، وهي حروب ارتكبت فيها جرائم ضد الإنسانية، بعد أن روجت لها تحت سلسلة خرافية من الأكاذيب، من دون محاسبة مختلقيها ومروجيها، أكان ذلك في الداخل الأمريكي أم خارجه، والمخيف في هذا الترويج الإعلامي المضلل أنه استخدم مأجوراً من قبل الامبراطوريات الإعلامية الكبرى للمزيد من الهيمنة الأمريكية تحت شعارات براقة، كما حدث أثناء العدوان الأمريكي على العراق بحجة أسلحة الدمار الشامل، وكما يحدث في الوطن العربي وفي الطليعة سورية تحت شعار ما يسمى بالربيع العربي، بتدبير من التحالف الأمريكي الإسرائيلي الرجعي الإرهابي، وبحجة استخدام الأسلحة الكيماوية.
حالات كثيرة مصنّعة أمريكياً أدت إلى كوارث ساهمت في انهيار المكانة الأمريكية الحالية منها، فشل الحرب الأمريكية على المقاومة اللبنانية بأدوات إسرائيلية في عام 2006، وعلى غزة في عام 2008، ومنها فشل التحالف الإسلامي بقيادة أمريكية في الحرب على الإرهاب، ومنها تورط أمريكا مع حلفاء لها في استخدام القوة، لتغيير معادلات محلية ووطنية على مستوى المنطقة، كما تفعل إسرائيل والسعودية وقطر والإمارات، في مواجهة إيران وسورية وباقي قوى محور المقاومة.
منذ عام 2001، والولايات المتحدة الأمريكية تخوض الحرب تلو الحرب بحجة مكافحة الإرهاب مستعينة بالتحالف الإسلامي، وحبيسة المواجهة مع إيران، ولاسيما فيما يخص البرنامج النووي الإيراني الذي أنتجه اتفاق 5+1 مع إيران، وانسحبت منه أمريكا بناء على رغبة إسرائيلية. وبالتالي مازالت شديدة الالتزام بالسيطرة على دول المنطقة لتوسيع نطاق نفوذها إلى حده الأقصى، وهي على وشك تجهيز حملة جوية تستهدف إيران بالتعاون مع إسرائيل، في الوقت الذي أصبحت فيه أزمات المنطقة في طريقها إلى الحلول السياسية، لولا إصرار الولايات المتحدة الأمريكية على تعقيدها خدمة لمصالحها.
الواقع الحالي يقول بتراجع السياسة الأمريكية، وهذا القول ليس من باب الإيمان بعالم متعدد الأقطاب فقط، وإنما لأن العالم أمام دولة كبرى مهيمنة متفردة لا تترك خياراً سياسياً أو إيديولوجياً إلا وابتلعته، ولا تقبل بسيادة غير سيادتها، ولا تصوراً سوى تصوراتها، ولا مصالح سوى مصالحها.
يوجد قناعة في هذه المرحلة على مستوى شعوب العالم، وبخاصة شعوب المنطقة، أن مكانة الولايات المتحدة الأمريكية قد أصبحت في حالة من الانحسار، وهذه القناعة تتميز فيها دول المنطقة، ودولة روسيا الاتحادية، التي تتحرك بسرعة مذهلة كي تخلق واقعاً عالمياً جديداً، والمشجع لهذه القناعة الروسية أن حلفاء أمريكا في أوروبا لا يملكون الوزن العسكري، ولا القناعة في إنقاذها، وهذا يعني أن الأوروبيين ليسو عاملاً أساسياً في معادلة الصراع بين أمريكا وروسيا، ولا يرجح أن يصبحوا كذلك على المدى المنظور، الأمر الذي يجعل من الوضع الاستراتيجي الأمريكي بالغ الصعوبة في مواجهة روسيا وحلفائها، وإذا كانت أمريكا قد استطاعت مقاومة الاتحاد السوفييتي السابق بعد الحرب العالمية الثانية، فهي لن تستطع ذلك اليوم، لا لأسباب أيديولوجية فقط، وإنما لأسباب جيوبولوتيكية أيضاً.
من وجهة النظر الروسية تواجه الولايات المتحدة الأمريكية معضلة استراتيجية هائلة، وهي أنها لا تمتلك ضد روسيا سوى الخيارات العسكرية المحدودة المحصورة بالخيارات البحرية، والتي تستطيع من خلالها إغلاق بعض المنافذ البحرية (بحر اليابان- البحر الأسود- بحر البلطيق- بحر بارنيتس)، وهذا ما لا تستطيع الحصول عليه لأنه مستبعد كونه سيعد بمثابة عمل حربي، ومع أن حصاراً كهذا سيؤذي روسيا التي تمتلك قوة برية تمكنها من الحصول على ما تريد اقتصادياً وعسكرياً، كونها تستطيع أن تصدر وتستورد ما تشاء عبر موانىء أوروبية، وتركية، وإيرانية، وعربية… والأهم من ذلك كله هو أن إي إجراء أمريكي ضد روسيا سيقابل بإجراءات مضادة، لكن المصلحة الروسية حتى الآن لا تتعدى خلخلة التوازن الأمريكي، وإضعاف القوات الأمريكية، وعلينا أن لا ننسى في هذا المجال التاريخ الروسي الطويل في دعم أنظمة صديقة له، وهذا مؤشر واضح على عمق العلاقة الاستراتيجية بين روسيا وأصدقائها، وقس على ذلك صداقاتها على مستوى المنطقة، وعلى صعيد العالم.
الولايات المتحدة الأمريكية في عهد ترامب تواجه المشكلة الاستراتيجية المتضمنة أن لدى روسيا خيارات متعددة، في الوقت الذي تضيق فيه خياراتها الاستراتيجية، والتي يمكن حصرها في أربعة خيارات، الأول: إجراء تسوية مع إيران، كون إيران هي المفتاح لتحقيق الاستقرار في المنطقة، هذا إذا رغبت إيران في مثل هذه التسوية، والثاني: الدخول في مفاوضات مع روسيا، وفي هذه الحالة سيكون الروس مشغولين في تمتين أوضاعهم كي يصبحوا قوة عظمى يصعب احتواؤها أمريكياً، مثلما كان عليه الاتحاد السوفييتي، والثالث: رفض الاشتباك مع الروس وترك المشكلة للأوروبيين، وهذا خيار مستبعد لأن الأوروبيين منقسمون على أنفسهم وغير متحمسين لمقاومة الروس، وربما سرّع هذا الخيار من وتيرة صعود روسيا مجدداً بموافقة أوروبية، والرابع: الانسحاب العسكري من المنطقة، وفي هذه الحالة ستكون الأنظمة التي تقف حليفة للولايات المتحدة الأمريكية وفي الطليعة إسرائيل، وقطر، والسعودية، وتركيا، جميعها مهددة، وسيرافق هذا التهديد عدم الاستقرار ولاسيما في الدول ذات الطبيعة الإسلاموية المتحالفة مع الولايات المتحدة الأمريكية.
في هذا الإطار يمكن الإشارة إلى خيار استراتيجي أمريكي آخر شديد الوضوح وهو، أن مواصلة الحرب الأمريكية في المنطقة تحت شعار مكافحة الإرهاب أو غيره في إطار التحالف الإسلامي الحالي سينطوي على مخاطر، وعلى تكاليف باهضة قد تشكل تهديداً مباشراً للولايات المتحدة الأمريكية، أكان هذا التهديد عسكرياً، أم كان اقتصادياً، الأمر الذي يؤكد أن ما كان تسيّساً عقلانياً، قد يتحول إلى مغامرة خطرة ولا سيما إذا كان من مجال للتسوية مع إيران، أو بالوصول إلى حل دبلوماسي مع روسيا من شأنه أن يحول دون اتخاذ روسيا الاتحادية موقفاً سيادياً يمثل دور الاتحاد السوفييتي السابق الذي يلزم أمريكا بإعادة انتشار قوتها لعرقلة التدخل الروسي، في الوقت الذي لا مصلحة لأمريكا فيه، وهي تستند إلى التحالف الإسلامي، وهذا يعني أن أزمة قد تطال الاستراتيجية الأمريكية ومن لف لفها في المنطقة، بحيث تصبح في مواجهة تهديدين: الأول إسلامي، والثاني روسي، وعليها أن تختار واحداً منهما، وهذا يعني عدم الاستمرار في استراتيجيتها الحالية، وبالتالي إما أن تكون أسيرة استراتيجية في ظل فوضى إسلامية، وإما أن تكون في مواجهة استراتيجية روسية تشكّل تهديداً أو خطراً عليها وعلى مصالحها. وربما كان هذا هو دافعها لقمة “ترامب بوتين”، لأن تكاليف التصعيد باهضة، وليس للولايات المتحدة الأمريكية، ولا لمن يغرد في سربها القدرة على دفع فواتيرها المستقبلية.
بقي أن نقول في هذا الواقع: أين الحضور العربي، وأين تنسيقه القومي، في محاولة ملء الفراغ؟ وإلى متى سيبقى العرب يستثمرون الأساطير والخلافات محولين إياها إلى صراعات فيما بينهم، بدلاً من ترتيب البيت العربي؟.