الطريق إلى بييدرا.. قراءة في رواية باولو كويلو
لنصل إلى نهر بييدرا نذهب مع باولو كويلو في رحلة روحانية مرافقين بيلار وصديقها الراهب الذي يجترح المعجزات في رواية “على نهر بييدرا هناك جلست فبكيت”، في الرحلة التي تستغرق أسبوعاً تنقلب المفاهيم وتتفتح الأذهان، نأخذ نفساً عميقاً ربما تتبدل أو نسلط الضوء على أشياء اعتبرت من المسلمات لكنه استطاع أن يزيح الغبار الذي استكان هناك.
كنت قد قررت أن ألا أقرأ المزيد لهذا الكاتب البرازيلي، إلا أن صديقاً أعارني الرواية وقال لي أنني عندما قرأتها لسبب ما تذكرتك، أغراني التعبير وأحببت أن أرى وأعرف لماذا قال هذا لي، أخذتها وبدأت بقراءة الصفحات التي لا يتجاوز عددها 205 وقلت ستنتهي في غضون ساعات قليلة، إلا أنني لم أندمج بها وتركتها ومرت الأيام وأنا أنظر إليها وكلمة صديقي في رأسي إلى أن قررت أن أعيد المحاولة وأنهي قراءتها.
“بيلار” الشخصية الرئيسية الفتاة التي تريد أن تشعر بالاستقرار، وأن تكون في مأمن في هذه الحياة التي لا تجد فيها معنى لوجودها، إلا أنها هناك في تلك البقعة من أسبانيا، تحاول جاهدة أن تواسي نفسها في روتين الحياة القاتل كما كل البشر وتسعى إلى امتلاك الكماليات علها تجد الرغبة والسعادة في الحياة، الإغراق في العادية تجعل المرء بلا روح، يعود إلى حياتها رفيق طفولتها الشاب الذي غادر في بداية المراهقة ليبحث عن معنى وجوده، يعود ليقلب حياتها مغيراً تفاصيل كثيرة ويمررها بمنعطفات لم تحلم يوماً أنها ستعبر فيها.
“بيلار” تمثلني أنا كفتاة تريد أن تعرف إن كانت علامة فارقة في هذه الحياة، تبحث عن الروحانية في حياة أصبح فيها العالم المادي المحسوس هو المسيطر البعيد عن الخيالات وإن كانت لا تُصدق إلا أنها تبقى عالقة في الأذهان.
هنا الكاتب يعري الروح الإنسانية، ويدخل في عمق الشخصية، في أحد المواقف التي تتعرض لها الفتاة عندما تكون في مجموعة للصلاة وترديد الأدعية تقف مشدوهة ما هذا الذي يقولونه؟ ما هذه الروح العالية التي يتم الإنشاد بها؟! وترى من الحمق الكثير وتخجل حتى في محاولة تقليدهم، إلا أنها تشعر في ذات الوقت بالغيرة وتكسر ذلك الحاجز المريب الذي يمنعها من محاولة معرفة شعور أولئك الناس، تُغيّب العقل الذي فرض نفسه وأعطى إشارات كثيرة لرفض الدين والله الذي كانت تعرفه وهي طفلة صغيرة.
النفحة الصوفية التي يسعى كويلو لوضعها بين سطور هذه الرواية وعلى لسان شخصياته قد لا يوافقه ولا يقبله الكثيرون، فهو يغرق في المسيحية ولكن في نفس الوقت يفرض الوجه الأنثوي لله، يعبر عن ذلك الوجه الذي غُيّب ويقدم ما معنى التضحية والحب والحنان عند الله من خلال وجهه الآخر الممثل بمريم العذراء. يكتب كويلو بلغة بسيطة بعيدة عن التعقيد والتراكيب المدغمة، يحاول الوصول إلى قلب كل قارئ، فتتناقل جمله مواقع التواصل الاجتماعي لأنها سهلة تعبر عن كل شخص في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى تأتي لتلامس شخصاً عاش تجربة مشابهة، مع “بيلار” الشخصية التي أعطيت اسماً بينما أغفل الراوي أن يعطي اسماً للحبيب وركز فقط على بيلار التي سيحدث عندها التغيير الأكبر في مشاعرها ومساحة حياتها في تركيبة شخصيتها، بيلار احتاجت إلى موقف فقط أو عدة أيام لتطلق الأحاسيس والأفكار وتحارب “الآخر” الذي ندعه يسيطر على عقولنا ويعيش حياتنا بناء على تصورات وحواجز أقمناها حتى أصبحت محظورات لا نستطيع المساس بها، ففي أحد المقاطع تطلب بيلار من حبيبها أن يحطم الكأس، تقول له “حطم الكأس إنها حركة بسيطة في الظاهر لكنها تشتمل على كل المخاوف التي لا نتمكن يوماً من فهمها، حطم الكأس لأن تحطيمها بادرة رمزية، حطم الكأس لأن أهلنا علمونا أن نحافظ على الكؤوس وعلى الأجساد، علمونا أن شغف الطفولة ينتمي إلى مضمار المستحيل، وعلمونا أن أحداً لا يسلك طريق السفر إلا إذا كان يعلم إلى أين يفضي به، حطم الكأس وحررنا من كل هذه الأفكار المسبقة اللعينة، من هوسنا بتفسير كل شيء، والإحجام عن أي شيء لا يقر به الآخرون”.
في قراءة هذه الرواية لأول مرة أتمنى أن تكون النهاية جميلة ولا تنتهي بفراق، ولم يخيب ظني، أجمل ما في باولو النهايات الجميلة، النهايات التي تجعلك تشع أملاً وحبوراً، كل الرواية توحي لك أن النهاية بائسة وحين تصل تبتسم وتكون النهاية التي أردت وتمنيت وأنست بها.
عُلا أحمد